فقلتُ له: هداك اللهُ مهلاً****وخير القول ذو اللبّ المصيبُ
عسى الكربُ الذي أمسيْتَ فيهِ****يكونُ وراءَه فرجٌ قريبُ
فيأمنَ خائفٌ ويُفكَّ عانٍ****ويأتي أهلَه النائي الغريبُ
ألا ليت الرياحَ مُسخَّراتٍ****بحاجتنا تُباكرُ أو تؤوبُ
فتخبرَنا الشمالُ إذا أتتنا****وتخبرَ أهلَنا عنا الجنوبُ
فإنا قد حلَلْنا دارَ بلوى****فتخطئُنا المنايا أو تُصيبُ (6)
فإن يك صدرُ هذا اليومِ ولّى****فإنَّ غداً لناظرِهِ قريبُ
ولمَّا أُخرج هدبة من السجن للقتل مرَّ على أبويه فإذا هما بأسوأ حال, فقال: (7)
أبلياني اليوم صبرًا منكما****إنَّ حزنًا منكما اليوم لشرِّ
ما أظنُ الموتَ إلا هيِّنًا****إنَّ بعدَ الموتِ دارُ المستقرِّ
وقال لمَّا أيقن بالموت: (8)
ألا علِّلاني قبل نوحِ النوائحِ****وقبل اطلاع النفس بين الجوانحِ
وقبل غدٍ يا لهفَ نفسي على غدٍ****إذا راحَ أصحابي ولستُ برائحِ
إذا راحَ أصحابي بفيضِ دُمُوعهم****وغُودرتُ في لحدٍ عليّ صفائحي
-الأحوص الأنصاري يرثي نفسه:
عندما اشتدت علّة الأحوص وحضرته الوفاة, وكانت معه جاريته (بشرة) فأخذت رأسه ووضعته في حِجرها وجعلت تبكي, ثم رفع رأسه إليها وقال: (9)
ما لجديدِ الموتِ يا بشرُ لذّةٌ****وكلّ جديدٍ تُستلذّ طرائفُهْ
فلا ضير إنّ الله يا بشرُ ساقني****إلى منزلٍ فيه تكون خلائفُهْ
فلستُ وإن عيشٌ تولّى بجازعٍ****ولا أنا ممّا حمّم الموتُ خائفُهْ
- خبر موت عروة بن حزام وما قال من الشعر في ذلك:
روى القالي بسنده إلى النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه قال: (10) لمَّا استعملني معاوية – رضي الله عنه- على صدقات بَلِيّ وعُذْرَة, فإني لفي بعض مياههم إذ أنا ببيتٍ منحردٍ ناحية, وإذا بفنائه رجلٌ مستلقٍ وعنده امرأة وهو يقول أو يتغنى بهذه الأبيات:
جعلتُ لعرَّافِ اليمامةِ حُكْمَهُ****وعرَّاف نجدٍ إنْ هُما شَفَيَاني
فقالا نعم نَشْفِي مِنَ الدَّاء كُلِّهِ****وقَاما مع العُوَّادِ يبتدرانِ
فما تَرَكا من رُقيةٍ يَعْلَمانِها****ولا سلوةٍ إلا وقد سَقَياني
فقالا شفاكَ اللهُ واللهِ مَا لَنَا****بما حُمِّلَتْ منك الضلوعُ يَدَانِ
فقلتُ لها: ما قصته؟ فقالت: هو مريض ما تكلم بكلمة ولا أنَّ أنَّةً منذ وقت كذا وكذا إلى الساعة, ثم فتح عينه وأنشأ يقول: (11)
مَنْ كان من أخواتي باكيًا أبدًا****فاليوم إني أُراني اليوم مَقْبُوضَا
يُسمعنيه فإني غيرُ سامعهِ****إذا علوتُ رقابَ القومِ مَعْرُوضَا
ثم خَفَت فمات, فغمَّضتُه وغسَّلته وصليت عليه ودفنته, وقلت للمرأة: من هذا؟ فقالت: هذا قتيل الحب! هذا عروة بن حزام.
وعروة هذا كان يحب ابنة عمه وهي عفراء, حيث نشأ معها في بيت واحد, ولكن زُوجت برجل آخر, فمرض بسبب ذلك إلى أن مات. (12)
ـــــــــــــــــ
(1) الشعر والشعراء لابن قتيبة (2/ 34 - 35) والعقد الفريد لابن عبد ربه (3/ 191).
(2) الشرجع: النعش.
(3) القعص: الموت السريع, التنائف: جمع تنوفة وهو المكان من الصحراء.
(4) انظر خبره كاملاً في الشعر والشعراء لابن قتيبة (2/ 141 - 145) , والكامل للمبرد (4/ 71 - 74) , والأغاني للأصفهاني (21/ 258 - 275).
(5) خزانة الأدب للبغدادي (9/ 232 - 233).
(6) أخطأ الشاعر هنا عندما قال (تخطئنا المنايا أو تصيب) فالمنية لا تخطىء فكل إنسان سيموت في يومه المحدد.
(7) الكامل للمبرد (4/ 73).
(8) العقد الفريد لابن عبد ربه (3/ 199).
(9) التعازي والمراثي للمبرد ص 63 والأبيات أيضًا في ديوانه ص 136
(10) النوادر لأبي علي القالي ص1 - 2
(11) البيتان وردا في العقد الفريد أيضًا (3/ 191).
(12) وانظر خبره كاملاً في الشعر والشعراء لابن قتيبة (2/ 67 - 72) , والأغاني للأصفهاني (24/ 123 - 137).