ومَن كان هذا حالُه فكيف يصلح حديثه للشواهد والمتابعات؟ فهو ينطبق عليه قول طارق بن عوض الله المذكور آنفاً، لأن الأحاديث التي انتقاها له البخاري كانت مِمَّا لم يتفرّد بها بل رُويت عن غيره مِن أهل الحفظ والإتقان. وفي هذا ردٌّ على ما تفضلت بذكره بقولك:
ولو أراد أحد ان يرد هذا الحديث لأجل إبن أبي أويس للزمه أن يرد جميع مروياته في البخاري وما أظن أحدا يقول بذلك
فالإشكال أخي الكريم إنما هو في ما رواه ابن أبي أويس مما ليس بمحفوظ ولا أصل له، وقد سُقتَ قول ابن حجر في ذلك فرددتَ على تساؤلك:
قال إبن حجر (وروينا في مناقب البخاري بسند صحيح أن إسماعيل أخرج له أصوله وأذن له أن ينتقي منها وأن يُعلّم له على ما يحدّث به ليحدذث به ويُعرض عما سواه. وهو مشعر بأن ما أخرجه البخاري عنه هو من صحيح حديثه لأنه كتب من أصوله، وعلى هذا لا يحتج بشيء من حديثه غير ما في الصحيح من أجل ما قدح فيه النسائي وغيره إلا أن يشاركه فيه غيره فيعتبر فيه)
فلم يشاركه في هذا الحديث إلا أحمد بن حفص عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن ابن أبي ذئب، وسند هذه الطريق منقطع كما ذكرتُ، وأعلّه ابن كثير بقوله: ((وهذا إسناد غريب وفيه نكارة)). اهـ
بمثل هذا يُحكم على الأسانيد أخي الكريم، فإنما أخرج البخاري رواية ابن أبي أويس هذه لما غلب على ظنه أن للحديث أصلاً اعتضاداً برواية إبراهيم بن طهمان، وهو مع ذلك علّق رواية ابن طهمان لمخالفتها إسناد ابن أبي أويس بزيادة أبي سعيد المقبري بين سعيد وأبي هريرة. وتلك قرينة على عدم الضبط لا يُمكن إغفالها، إلاّ إذا أردنا أن نصحّح الحديث لمجرّد إيراد البخاريّ له ونغمض عن كلّ هذه القرائن. فهناك فرق بين تحسين الظن بصنيع البخاري رحمه الله، وبين تعقّبه في صنيعه.
تقول أحسن الله إليك:
وأسألك يا أخي من سبقك إلى تضعيف هذا الحديث؟
أنا لا أعلم أحدا سبقك، ومن تكلم في إسناده إنما تكلم من ناحية حديثية
قلتُ:
(1) لم يزعم أحد من الأئمة رحمهم الله أنه استقصى جميع الأحاديث المعلولة، فما سكتت عنه كتب العلل ليس معناه أنه صحيح.
(2) قد يقضي العالِم الزمن الطويل في استظهار علة حديث واحد كما قال الخطيب البغدادي (الجامع لأخلاق الراوي 1788): ((فمِن الأحاديث ما تخفى علّته، فلا يوقف عليها إلا بعد النظر الشديد ومضيّ الزمن البعيد)). ثم أخرج بسنده عن علي بن المديني قوله: ((ربما أدركتُ علة حديث بعد أربعين سنة)). اهـ وقد يموت دون أن يدرك العلة أيضاً!
(3) فقد قال ابن حجر (النكت 2/ 271): ((قد يخفى على الحافظ بعض العلل في الحديث فيحكم عليه بالصحة بمقتضى ما ظهر له، ويطّلع عليها غيره فيردّ بها الخبر)). اهـ
(4) وبالتالي فعدم الوقوف على العلة لا يعني انتفاءها وذلك لأنها كامنة مستترة، فإذا بانَت فلا يُحتجّ بعدم وقوف السابقين عليها، لما علمتَ أنهم لم يستوعبوا كلّ الأحاديث المعلولة. وإلاّ فكم من حديث معلول لم يتعرّض له الدارقطني!
يتبع إن شاء الله تعالى ...
ـ[إبن محيبس]ــــــــ[28 - 03 - 09, 09:15 م]ـ
قلتُ: جمعتَ في كلامك مِن أضراب الاصطلاح حُكمَك على السند "بالصحة" لكون الحديث "حسناً لغيره" بمجموع طرقه "الضعيفة". فأرجو أن توضّح لي أخي الكريم كيف تجتمع هذه الثلاثة؟
أنا مشيت على إصطلاح المتقدمين في تسميتهم كل حديث ثابت أنه صحيح ولو كان حسنا أو حسنا لغيره، كما أنهم كانوا يطلقون أحيانا لفظ الضعيف على ما كان حسنا، وهذه التقسيمات والتسميات حادثة بعدهم، ولا مشاحة في الإصطلاح، وليكن القول الآن أنه حديث حسن لغيره ولا تزعل (ابتسامة)
ثم إن مِن شروط الحديث الحسن ألاّ يكون راويه متهماً بالكذب، وهذا ليس بمتحقق في رواية ابن أبي أويس، والطريق الأخرى معلولة بالانقطاع. فكيف تكون الرواية المنقطعة عاضدة لرواية المجروح؟
لا أسلّم أنّ تهمة الكذب ثابتة على ابن أبي أويس، وما كان البخاري ليروي عنه ويضع أحاديثه في كتاب سماه الجامع الصحيح ثم يعرضه على أحمد وابن معين والمديني، هذا كلام وظن لا ينبغي قوله على البخاري وصحيحه والأئمة الأجلة
أين أنت من قول الإمام أحمد (ليس به بأس)؟ أيقول أحمد هذا في رجل متهم بالكذب؟ ّ
وقول ابن معين عنه فيه قولان، والنسائي فيه تشدد في الجرح
¥