يقول النووي في شرح مسلم تعقيباً على ابن الصلاح (المنهاج 1/ 20): "قال الشيخ في علوم الحديث: (وقد كنت أميل إلى أن ما اتفقا [أي البخاري ومسلم] عليه فهو مظنون، وأحسبه مذهباً قوياً. وقد بان لي الآن أنه ليس كذلك، وأن الصواب أنه يفيد العلم). وهذا الذي ذكره الشيخ في هذه المواضع خلاف ما قاله المحققون والأكثرون، فإنهم قالوا: أحاديث الصحيحين التي ليست بمتواترة إنما تفيد الظن، فإنها آحاد والآحاد إنما تفيد الظن، على ما تقرر. ولا فرق بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك. وتلقي الأمة بالقبول إنما أفادنا وجوب العمل بما فيهما، وهذا متفق عليه. فإن أخبار الآحاد التي في غيرهما يجب العمل بها إذا صحت أسانيدها، ولا تفيد إلا الظن، فكذا الصحيحان". اهـ
فأنت ترى أخي الكريم أن تلقي الأمة للصحيحين بالقبول إنما هو في وجوب العمل بهما، لا أن أحاديثهما تفيد العلم اليقيني، وهذا هو ما كان عليه المحققون والأكثرون قبل ابن الصلاح.
ثم يقول (المنهاج 1/ 131): "وأما خبر الواحد: فهو ما لم يوجد فيه شروط المتواتر، سواء كان الراوي له واحداً أو أكثر. واختلف في حكمه: فالذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول: أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع يلزم العمل بها، ويفيد الظن ولا يفيد العلم". اهـ (المنهاج 1/ 131)
فأنت ترى أستاذنا الكريم أن الإجماع من لدن الصحابة فما بعدهم وهم جماهير المسلمين هو العمل بخبر الواحد، ولكنه يفيد الظن لا العلم لأنه غير مقطوع به.
يقول السيوطي في تدريبه (1/ 34): ((ما اتَّصلَ سنده مع الأوصاف المذكورة فقبلناه عملاً بظاهر الإسناد (لا أنَّه مقطوع به) في نفس الأمر, لِجَواز الخطأ والنسيان على الثِّقة, خلافاً لمن قال: إن خبر الواحد يُوجب القَطع, حكاه ابن الصبَّاغ عن قوم من أهل الحديث, وعزاه الباجي لأحمد, وابن خويز منداد لمالك, وإن نازعه فيه المازري بعدم وجود نص له فيه")). اهـ
فهذه مسألة خلافية معروفية، فكيف يُدَّعَى الإجماع على صحة كل حديثٍ حديثٍ في الصحيحين؟
تقول أحسن الله إليك:
وليس في الحديث مخالفة للقرآن
الحق سبحانه وتعالى يقول في محكم التنزيل: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ) .. فالقول بأنه يتبرأ منه في الآخرة باطل، وهذا ما سَعيتَ لتنفيَه عن الحديث، رغم أن هذا صريحٌ فيه، فجئتَ بمعنى غير مسبوق!
واعلم أنّ الطبري رحمه الله ردَّ تبرؤ إبراهيم من أبيه يوم القيامة، فقال في تفسير: ((وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول الله، وهو خبره عن إبراهيم أنه لما تبين له أن أباه لله عدو، يبرأ منه. وذلك حال علمه ويقينه أنه لله عدو، وهو به مشرك، وهو حال موته على شركه)). اهـ
ـ[أحمد الأقطش]ــــــــ[02 - 04 - 09, 06:31 ص]ـ
وقال الألوسي في روح المعاني (11/ 36): ((بقي أن هذه الآية يخالفها ظاهر مارواه البخاري في الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "يلقى إبراهيم ... " فإن الآية ظاهرة في انقطاع رجاء إبراهيم عليه السلام اتصاف أبيه بالإيمان وجزمه بأنه لا يغفر له، ولذلك تبرأ منه وترك الإستغفار له ... والحديث ظاهر في أنه عليه الصلاة والسلام يطلب ذلك له يوم القيامة ولا ييأس من نجاته إلا بعد المسخ، فإذا مسخ يئس منه وتبرأ.
وأجاب الحافظ ابن حجر عن المخالفة بجوابين، بحث فيهما بعض فضلاء الروم. ومن الغريب قوله في الجواب الثاني: إن إبراهيم عليه الصلاة و السلام لم يتيقن موت أبيه على الكفر لجواز أن يكون آمن في نفسه ولم يطلع عليه الصلاة و السلام على ذلك ويكون وقت تبريه منه بعد الحالة التي وقعت في الحديث فإنه مخالف مخالفة ظاهرة لما يُفهم من الآية من أن التبين والتبري كان كل منهما في الدنيا!
¥