وأجاب ذلك البعض: بأنا لا نسلم التخالف بين الآية والحديث، وإنما يكون بينهما ذلك لو كان في الحديث دلالة على وقوع الإستغفار من إبراهيم لأبيه وطلب الشفاعة له، وليس فليس. وقوله: "يارب إنك وعدتني" إلخ أراد به عليه الصلاة والسلام محض الاستفسار عن حقيقة الحال، فإنه اختلج في صدره الشريف أن هذه الحال الواقعة على أبيه خزي له ... وأنت خبير بأن الخبر ظاهر في الشفاعة وهي استغفار كما يدل عليه كلام المتكلمين في ذلك المقام ...
وأجاب بعض المعاصرين: أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان عالماً بكفر أبيه ومتيقناً بأن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به، إلا أن الشفقة والرأفة الطبيعية غلبت عليه حين رأى أباه ... ولا يخفى أنه من الفساد بمكان. ومثله ماقيل: إنه ظن إستثناء أبيه من عموم إن الله لايغفر أن يشرك به لأن الله وعده أن لايخزيه فقدم على الشفاعة له ولعمري لا يقدم عليه إلا جاهل بجهله! أما الأول: فلأن الأنبياء عليهم السلام أجل قدراً من أن تغلبهم أنفسهم على الإقدام على مافيه تكذيب الله تعالى نفسه. وأما الثاني: فلأنه لو كان لذلك الظن أصل، ماكان يتبرأ منه عليه السلام في الدنيا بعد أن تبين له أنه عدو الله وهو الأواه الحليم!
وقيل: إن الأحسن في الجواب إلتزام أن ما في الخبرين ليس من الشفاعة في شيء، ويقال: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ظن أن خزي أبيه في معنى الخزي له، فطلب بحكم وعد الله سبحانه إياه أن لا يخزيه تخليصه من ذلك حسبما يمكن، فخلصه منه بمسخه ذيخاً ... ولا يخفى ما في هذا الجواب من التكلف. وأولى منه التزام كون فاعل وعد ضمير الأب وضمير إياه راجعاً إلى إبراهيم عليه الصلاة و السلام، وكون التبين والتبري واقعين في الآخرة حسبما تضمنه الخبران السابقان. فحينئذ لا يبعد أن يكون إبراهيم مستغفراً لأبيه بعد وعده إياه بالإيمان طالباً له الجنة لظن أنه وفى بوعده حتى يمسخ ديخاً. لكن لا يساعد عليه ظاهر الآية ولا المأثور عن سلف الأمة وإن صح كون الآية عليه دفعاً لما يرد على الآية الأولى من النقض أيضاً بالعناية. ولعل أخف الأجوبة مؤنة كون مراد إبراهيم عليه الصلاةوالسلام من تلك المحاورة التي تصدر منه في ذلك الموقف إظهار العذر فيه لأبيه وغيره على أتم وجه، لا طلب المغفرة حقيقة)). اهـ
فانظر وفّقك الله لتدرك أن هذا المتن في غاية الإشكال ولا وجه لتوجيهه إلا بمخالفة نص القرآن وأقوال سلف الأمة. وكتاب الله أحقّ بالاتباع مِن اجتهاد البخاري، إلاّ إذا كنتَ تقدّم خبر الواحد على القرآن!
ـ[أحمد الأقطش]ــــــــ[02 - 04 - 09, 06:32 ص]ـ
وقال أبو حيان في تفسيره البحر المحيط لهذه الآية: ((والذي يظهر أن استغفار إبراهيم لأبيه كان في حالة الدنيا. ألا ترى إلى قوله {واغفر لأبي إنه كان من الضالين} وقوله {رب اغفر لي ولوالدي}؟ ويضعف ما قاله ابن جبير: من أن هذا كله يوم القيامة، وذلك أن ابراهيم يلقى أباه فيعرفه ويتذكر قوله "سأستغفر لك ربي"، فقول له: إلزم حقوى فلن أدعك اليوم لشيء، فيدعه حتى يأتي الصراط فيلتفت إليه فإذا هو قد مسخ ضبعاناً، فيتبرأ منه حينئذ. انتهى ما قاله ابن جبير. ولا يظهر ربطه بالآخرة)). اهـ
وقال ابن عطية في المحرز الوجيز: ((وقال سعيد بن جبير: ذلك كله يوم القيامة وذلك أن في الحديث أن إبراهيم يلقاه فيعرفه ويتذكر قوله {سأستغفر لك ربي} فيقول له: الزم حقوي فلن أدعك اليوم لشيء، فيلزمه حتى يأتي الصراط فيلتفت إليه فإذا هو قد مسخ ضبعاناً أمذر فيتبرأ منه حينئذ. قال القاضي أبو محمد: وربط أمر الاستغفار بالآخرة ضعيف)). اهـ
إضافةً إلى ما علمتَ مِن قول الإمام الإسماعيلي فإنه طعن في صحة الحديث مِن أصله.
أما ابن كثير فقال في:
@ إسناد ابن أبي أويس عند البخاري: ((هكذا رواه في قصة إبراهيم منفرداً)). اهـ[البداية والنهاية 1/ 163]
@ وإسناد إبراهيم بن طهمان عند النسائي: ((وهذا إسناد غريب وفيه نكارة)). اهـ[التفسير الشعراء 87]
@ وإسناد حماد عن أيوب: ((وفي سياقه غرابة)). اهـ[البداية والنهاية 1/ 163]
ثم اعلم أن قوله تعالى حكايةً عن إبراهيم (ولا تخزني يوم يُبعثون) يُفسّره قوله تعالى (إنك مَن تُدخِل النار فقد أخزيتَه)، فالقرآن يفسّر بعضه بعضاً. ولذلك عقَّب عليه السلام بقوله (يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلبٍ سليم) فهو صريحٌ في دعائه اللهَ أن يجيرَه مِن النار يوم القيامة يوم يأتيه فرداً يوم (لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً)، وهو ما يُفصِح عن عوار تلك القصة. فأين ذهل عنك هذا لتردّ كتاب الله مقدَّماً عليه اجتهاد البخاري في تصحيح رواية منكرة!
وقولك أنّ إبراهيم عليه السلام كان يريد الشفاعة لأبيه كي لا يدخل النار وأنّ هذا هو المراد بالخزي في الحديث ما أقول إلا سبحانك هذا بهتان عظيم
هذا هو منطوق الحديث حفظك الله وليس إفكاً افتريتُه، وهو ما فهمه الإسماعيلي صريحاً من المتن فطعن فيه، وهو ما فهمه الألوسي كما مرّ عليه بقوله: ((وأنت خبير بأن الخبر ظاهرٌ في الشفاعة)). اهـ وهو ما فهمه أيضاً الذين قالوا إن إبراهيم سيتبرأ من أبيه في الدنيا، لأنه قبل أن يمسخ ضبعاً كان إبراهيم يسأل ربه فيه، فهذا ظاهر. ولا أدي كيف أجيب على قولك الكريم:
الحديث واضح وصريح لا مرية فيه، أين ذكر الشفاعة في الحديث؟! كيف يظن مسلم بإبراهيم أنه يشفع لكافر؟!
مِن هنا فكيف تتهمني - أكرمك الله - بأنني خارج عن صنيع أهل العلم في قولك:
وكلامك كله خروج عن صنيع أهل العلم، حديث يقبله العلماء ويصححونه ثم أنت تضعّفه
لأنه ليس بعد كلام الله كلام. ويشهد الله أني لم أقل برأيي في شيء مما أسلفتُ، فإني لم أحِد عن أقوال أهل العلم.
هذا .. وما أبرّئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي
والله تعالى أعلى وأعلم
¥