قلت: عنعنة ابن جريج هنا ليست علة في الخبر ـ كما يدعي المجيب بغير علم ـ لأنه صَرَّحَ بالتحديث في السند نفسه، فقال: ((أنه أخبره)) فهذا لفظ ابن جريج، يقول: أن الحسن بن مسلم أخبره أنه سمع طاوساً يقول: ... ، نعيد سند الحديث: ( ... عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم أنه أخبره أنه سمع طاوساً يقول: ... ).اهـ
فهذا تصريح من ابن جريج بالتحديث، فما عادت العنعنة ههنا علة، وهو هنا أيضاً يروي عن ثقة وهو الحسن بن مسلم، فعنعنته عنه مأمونة، وقد جعل العلماء ضابطاً لرد عنعنة المدلس وهي أن يروي عن مجروح، أو مجهول، وذلك خشية تدليسه، أما إذا روى عن ثقة كما هنا فلا، فكيف وقد صَرَّحَ بالتحديث (؟!) فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور فلولا كان ذا بصيرة لرأى نص التصريح بالتحديث ماثلاً بين عينيه، وما عدَّ العنعنة علة في الحديث (!) ولكن لا بصر ولا بصيرة، على كل ما على مثله يُعدُّ الخطأ.
ويحضرني هنا قول الشاعر وما أحسن ما قال في مثل هذا المعنى:
القلب يدرك ما لا عين تدركه
والحسن ما استحسنته النفس لا البصر
وما العين التي تعمى إذا نظرت
بل القلوب التي يعمى بها البصر
المسألة الرابعة: المخالفة لما ورد في الصحيح:
قال المجيب وذكر من العلل الثلاث: (والمخالفة لما ورد في الصحيح، فأم زفر هذه قد ذكر البخاري عن عطاء أنها هي السوداء التي كانت تصرع، وأنها اختارت الجنة على الشفاء من الصرع غير انها سألت النبي أن يدعو لها حتى لا تتكشف فدعا لها).اهـ
قلت: المخالفة هنا إنما هي في ذهن المجيب ـ عن السؤال جهلاً ـ فقط، فليست هي بمخالفة على الإطلاق بَلْهَ أن تكون علة أصلاً، كيف وقد ذكر الحديث جمع من الأئمة واستشهدوا به على أن صرع أم زفر كان مس جن ولم يُعِلَّ أحد منهم الأثر بالمخالفة لما في الصحيح وهم من هم في الحديث والسنة كالحافظ ابن عبد البر في: (الاستيعاب) فقد أورد الحديث مستشهداً به في ترجمتها على أن (أم زفر)؛ هي التي كان به مس جن ثم أورد الأثر فقال: ((أم زفر التي كان بها مس من الجن ذكر حجاج وغيره عن ابن جريج عن الحسن بن مسلم أنه أخبره أنه سمع طاوساً يقول: كان النبي يؤتى بالمجانين فيضرب صدر أحدهم فأُتي بمجنونة يقال لها: أم زفر فضرب صدرها فلم تبرأ ولم يخرج شيطانها؛ فقال رسول الله: هو يعيبها في الدنيا ولها في الآخرة خير)) (1).اھ
فهذا دليل على ثبوت الأثر عنده وإلا ما كان ليورده مستشهداً به، وما عدَّه مخالفاً لما في الصحيح.
كذا ابن الأثير في ((أُسْد الغابة)) قال في ترجمتها: ((أم زفر: هي التي كان بها مس من الجن))، فمن أين استدل ابن الأثير على أن أم زفر كان بها مس جن (؟)، من أثر طاوس هذا، وما عدَّهُ مخالفاً لما في الصحيح، كما يدعي المجيب مدعي المخالفة.
كذا الحافظ ابن حجر في: (فتح الباري) عند شرحه الحديث في: (باب فضل من يصرع من الريح) وقد أفاض في ذكر من خرجه من أهل العلم، فقال رحمه الله: ((. . . وعند البزار من وجه آخر عن ابن عباس في نحو هذه القصة أنها قالت: إني أخاف الخبيث أن يجردني، فدعا لها فكانت إذا خشيت أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتتعلق بها)).
وقد أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج هذا الحديث مطولاً، وأخرجه ابن عبد البر في ((الاستيعاب)) من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج عن الحسن بن مسلم (2) أنه سمع طاوساً يقول: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يؤتى بالمجانين فيضرب صدر أحدهم فيبرأ، فأتي بمجنونة يقال لها: أم زفر، فضرب صدرها فلم تبرأ (3)، قال ابن جريج: وأخبرني عطاء فذكر كالذي هنا.
وأخرجه ابن منده في ((المعرفة)) من طريق حنظلة بن أبي سفيان عن طاوس فزاد: ((وكان يثني عليها خيراً)) وزاد في آخره: ((فقال: إن يتبعها في الدنيا فلها في الآخرة خير)) وعُرِفَ مما أوردته أن اسمها سُعَيرة وهي بمهملتين مصغر، ووقع في رواية ابن منده بقاف بدل العين، وفي أخرى للمستغفري بالكاف، وذكر ابن سعد وعبد الغني في ((المبهمات)) من طريق الزبير أن هذه المرأة هي ماشطة خديجة التي كانت تتعاهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالزيارة. . . وقد يؤخذ من الطرق التي أوردتها أن الذي كان بأم زفر كان من صرع الجن لا من صرع الخلط.
¥