ففي هاتين الآيتين جعل الله تبارك وتعالى هلاك البشر وانحرافهم في ديانتهم وعبادتهم بسبب اتباعهم للظن ومجانبتهم للهدى الذي هو نقيض الظن، فلو أن الإنسان احترم عقله ووضع جوارحه من سمع وبصر وشعور في المكان الذي يريده الله تبارك وتعالى واستخدم هذه الروافد بشكلها الصحيح لوصل إلى برد اليقين وباحة الإيمان. ولكن يأبى أكثر الناس إلا أن يلغوا عقولهم ويقفلوا على قلوبهم ويركضوا وراء شهواتهم وأهوائهم فيتبعوا خطوات الشيطان.
قال تعالى: ((وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ)).
بل ان بعض العلماء رأى في هذه الاية مستمسكا لعدم جوار التقليد في الامور العقائدية الا عن طريق النظر والبرهان قال الرازي:"دلت هذه الآية على ان كل من كان ظانا في مسائل الاصول وما كان قاطعا فأنه لا يكون مؤمنا"
وكذلك صرح القرطبي فقال " (ان الظن لا يغني من الحق شيئا) وقيل (الحق) هنا اليقين أي ليس الظن كاليقين وفي الآية دليل على انه لا يكتفى بالظن في العقائد"
وقد أزرى الله تبارك وتعالى على الأمم السابقة حينما جعلوا ظنونهم مطية يركبون عليها على حساب دينهم. فهؤلاء اليهود حينما تخلوا عن المنهج الحق في إصدار أحكامهم واتبعوا ظنونهم قالوا: إن إبراهيم يهوديا وهم يعلمون إن إبراهيم عليه السلام عاش ومات من قبل أن يظهروا إلى الوجود. فحاججهم القرآن العظيم على هذه الفعلة فقال تعالى:
((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ، هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)). ثم شن الله تبارك وتعالى حملة على النصارى حينما تبنوا أحكاما بحق سيدنا عيسى مبناها على الظن وأوضح لهم أن الظنون تورد الخلاف والفرقة وإنها تجلب الغضب والسخط من الله تبارك وتعالى.
قال الله تبارك وتعالى: ((فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً، وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً، وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً)). أما أمة محمد ? فإن الله تبارك وتعالى يرسم لهم الطريق منذ البداية ويضع المعالم أمامهم لكي لا يصلوا إلى ما وصلت إليه الأمم السابقة فيسد جل وعلا كل ثغرة يمكن أن تتسبب في انحراف الأحكام وما يتبناه المسلم في حياته. فيقول جل وعلا:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)).
(فلكي لا يقع المسلم في الظن الباطل الذي يفسد الأحكام عليه أن يترك مساحة كبيرة من الظن المباح توطينا للنفس على التثبت والتوقي وما ذلك إلا لشدة هذا الأمر وخطورته)
المنبع الرابع: ترتيب الله جل وعلا الحقوق على منهج التثبت والبينة:
وربما لا نبالغ إذا قلنا إن أهم المنابع التي تؤصل في نفس المسلم منهج التثبت والتوقي هو ما نلاحظه في القرآن الكريم من إلزام المؤمنين بشكل عملي بذلك المنهج في شتى مناحي الحياة وترتيب الله جل وعلا الحقوق والقضاء على التثبت.
¥