فتارة نرى ان الله تبارك وتعالى يحثنا على كتابة العقود والديون، ثم يوجهنا بعد الكتابة الى إشهاد الشهود على ذلك.
وتارة نراه يجعل مدار تطبيق الحدود على البينة، فلا تثبت جريمة ولا يقام حد إلا بعد التثبت والاستيقان.
وتفصيل ذلك فيما يأتي:
يقول الله تبارك وتعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاتَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)).
ومن يقف أمام هذه الآية موقف الاعتبار فإنه سيلمس بيده عظمة هذا الإعجاز التشريعي الرائع الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة فيها حفظ لحقوق الناس إلا أحصاها. فالباري عز وجل لما علم من تقلب الإنسان إذا ما وكل إلى نفسه ولما علم من أن هذا الإنسان عرضة للنسيان بسبب أثقال الحياة وأمواجها المتلاطمة لم يرد جل وعلا أن تضيع حقوق بني البشر بعضهم عند بعض إذا تعاملوا بالدين وأراد لكل واحد منهم أن يتثبت في حفظ حقوق غيره لكي تستمر الحياة باستمرار الثقة بينهم. لذا أوجب الله تعالى في مسألة المداينة عدة أمور يمكن إجمالها فيما يأتي:-
1.يحثنا سبحانه وتعالى كتابة المداينة فقال جل وعلا: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ)). مهما تكن الثقة بين الدائن والمدين.
قال الطبري:"اختلف اهل العلم في اكتتاب الكتاب بذلك على من هو عليه هل هو واجب او ندب؟؛ فقال بعضهم: هو حق واجب وفرض لازم… وقال آخرون: كاناكتتاب الكتاب بادين فرضا فنسخه قوله تعالى):فان امن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن امانته) " ـ3
قال ابن حبان:"امر الله تعالى بكتابته لان ذلك اوثق وآمن من النسيان وابعد من الجحود وظاهر الامر للوجوب، وبه قال بعض اهل العلم منهم الطبري واهل
الظاهر وقال الجمهور هو امر للندب يحفظ به المال وتزال به الريبة "
2ـ أوجب الله تعالى أن تقوم عملية الكتابة هذه على يد طرف ثالث، ويجب أن يكون هذا الكاتب عدلا مرضيا من قبل الطرفين. قال تعالى: ((وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ)).
قال الامام الرازي:"واعلم انه تعالى لما امر بكتب هذه المداينة اعتبر في ذلك شرطين:
اولهما: ـان يكون الكاتب عدلا"
3.إذا وجد الكاتب العدل وجب عليه الانقياد لرغبتهما في الكتابة ولا يجوز له أن يمتنع عن كتابة هذه المداينة. قال تعالى (وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّهُ اللَّهُ)).
قال الرازي:"ظاهر هذه الكلام نهي لكلمن كان كاتبا عن الامتناع عن الكتبة والمعنى ان الله تعالى لما علمهالكتبة ورفه بمعرفة الاحكام الشرعية فالاولى ان يكتب تحصيلا لمهم اخيه المسلم وشكرا لتلك النعمة "
4.زيادة في التثبت يجب على الشخص المدين أن يقر ويردد بلسانه ما كتبه كاتب العدل حتى يقع الحق عليه ولا يدعي بعد ذلك أنه لم يعلم مضمون ما كتب. قال تعالى: ((فَلْيَكْتُبْ (أي الكاتب) وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ)) (أي الشخص المدين).
¥