وأوضح الإمام ابن أبي حاتم الرازي أن مدار فهم الشريعة كله يدور على علم الجرح والتعديل إذ لا سبيل إلى فهم آيات الكتاب إلا بالرجوع إلى السنة المطهرة. ولا سبيل إلى التمسك الصحيح بالسنة المطهرة إلا بالتمييز بين صحيحها وسقيمها ولا سبيل إلى معرفة الصحيح من السقيم إلا بمعرفة علم الجرح والتعديل والوقوف على أحوال الرجال. فقال: (فإن قيل كيف السبيل إلى معرفة ما ذكر من معاني كتاب الله عز وجل ومعالم دينه؟ قيل بالآثار الصحيحة عن رسول الله ? وعن أصحابه النجباء الألباء الذين شهدوا التنزيل وعرفوا التأويل ?. فإن قيل بم تعرف الآثار الصحيحة والسقيمة؟! قيل بنقد العلماء الجهابذة الذين خصهم الله بهذه الفضيلة ورزقهم هذه المعرفة في كل دهر وزمان.
حدثنا أبو محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي أخبرنا أبي قال: أخبرني عبدة بن سليمان المروزي قال: قيل لأبن مبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟!! قال يعيش لها الجهابذة).
وقال أبو الوليد الباجي في جواز الجرح ودواعيه: (وإنما يجوز للمجرِح أن يذكر المجرَح بما فيه مما يرد حديثه لما في ذلك من الذب عن الحديث وكذلك ذو البدعة يذكر ببدعته لئلا تغتر به الناس حفظا للشريعة وذبا عنها).
بقي أن نعلم بعد هذا أن علماءنا الإجلاء رحمة الله عليهم لم يسارعوا إلى الخوض في هذا الأمر إلا بعد أن علموا علم اليقين أن الجرح أمر جائز لهم بل واجب عليهم وأنه خارج عن دائرة الغيبة المحرمة. إذ عليه مدار تصحيح الأحاديث الواردة عن النبي ? وصحابته الكرام. فلما كان معرفة الصحيح من السقيم من الآثار واجبا-وهو ما لا يتم إلا بالجرح والتعديل-كان الجرح والتعديل واجبا اعتمادا على القاعدة الأصولية التي تقول: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
وتكلم العلماء في الكشف عن الحدود الفاصلة بين الغيبة المحرمة والغيبة المباحة. حتى لا يقع الناس في الحرام.
يقول الإمام النووي: (والغيبة ذكر الإنسان في غيبته بما يكره والبهت أن يقال له الباطل في وجهه وهما حرامان ولكن تباح الغيبة لغرض شرعي ولذلك أسباب:
- أحدهما: التظلم: فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية على إنصافه من ظلمه فيقول ظلمني فلان أو فعل بي كذا.
- الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب: فيقول لمن يرجو قدرته فلان يعمل كذا فازجره عنه.
- الثالث: الاستفتاء: بأن يقول للمفتي ظلمني فلان أو أبي أو أخي أو زوجي بكذا فهل له ذلك وما طريقي في الخلاص منه، ودفع ظلمه عني…
- الرابع: تحذير المسلمين من الشر: وذلك من وجوه:
* منها جرح المجرحين من الرواة والشهود والمصنفين وذلك جائز بالإجماع بل واجب صونا للشريعة.
* ومنها الإخبار بعيبه عند المشاورة في مواصلته.
* ومنها إذا رأيت من يشتري شيئا معيبا أو عبدا سارقا أو زانيا أو شاربا أو نحو ذلك أن تذكره للمشتري إذا لم يعلمه نصيحة لا بقصد الإيذاء والإفساد.
* ومنها إذا رأيت متفقها يتردد إلى فاسق أو مبتدع يأخذ عنه علما وخفت عليه ضرره فعليك نصيحته ببيان حاله قاصدا النصيحة.
* ومنها أن يكون له ولاية ولا يقوم بها على وجهها لعدم أهليته أو لفسقه فيذكره لمن له عليه ولاية يستدل بها على حاله ولا يغتر به ويلزم الاستقامة.
- الخامس: أن يكون مجاهرا بفسقه أو بدعته: كالخمر ومصادرة الناس وجباية المكوس وتولي الأمور الباطلة فيجوز ذكره بما يجاهر به ولا يجوز بغيره إلا بسبب آخر.
- السادس: التعريف: فإذا كان معروفا بلقب كالأعمش والأعرج والأزرق والقصير والأعمى والأقطع ونحوها جاز تعريفه به ويحرم ذكره به تنقيصا ولو أمكن التعريف بغيره كان أولى).
فأنظر إلى حكمة الله كيف انتقلت الغيبة من أكل للحوم الناس إلى واجب شرعي حينما تعلق الأمر بحفظ الدين وصيانة الشريعة.
جاء في كتاب بحر الدم فيمن تكلم فيه أحمد بمدح أو ذم: (ولابد لك قبل ذلك أن تعلم أن الكلام في الرجال ليس هو من باب الغيبة المحرم وإنما هو من باب تصحيح الحديث).
وأخرج العقيلي بسنده إلى سفيان بن عيينة قوله: (كان شعبة يقول: تعالوا حتىنغتاب في الله).
وأخرج كذلك بسنده إلى ابن علية أن رجلا قال: (فلان ليس ممن يؤخذ عنه الحديث فقال الآخر: قد اغتبت الرجل فقال رجل: ليست هذه بغيبة إنما هذا حكم فقال ابن علية: صدقك الرجل يعني الذي قال هذا حكم).
¥