قال عبد الله بن الإمام أحمد: (جاء أبو تراب النخشبي إلى أبي فجعل أبي يقول: فلان ضعيف وفلان ثقة فقال أبو تراب: يا شيخ لا تغتب العلماء، فالتفت أبي إليه فقال له: ويحك هذا نصيحة ليس هذا غيبة).
قال الامام النووي في شرحه على صحيح مسلم في بيان هذا الأمر:
(أعلم أن جرح الرواة جائز، بل هو واجب بالاتفاق للضرورة الداعية إليه، لصيانة الشريعة المكرمة، وليس هو من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة لله تعالى ورسوله ?، ولم يزل فضلاء الأمة وأخيارهم وأهل الورع منهم يفعلون ذلك).
وتكلم الخطيب البغدادي في كفايته عن أولئك الذين يريدون أن يعيش الناس في عماية عن أمور دينهم زعما منهم أن الكلام في الرجال مما حرم الله على عباده أن يخوضوا فيه فكفى ووفى، فقال رحمه الله:
" وقد انكر قوم ام يتبحروا في العلم قول الحفاظ من ائمتنا، واولي المعرفة من أسلافنا أن فلانا الراوي ضعيف وفلان غير ثقة، وما أشبه هذا من الكلام ورأوا ذلك غيبة لمن قيل فيه أن كان الأمر على ما ذكره القائل وإنه كان الأمر على خلافه فهو بهتان.
(واحتجوا بالحديث الذي يرويه أبو هريرة أن رسول الله ? سئل ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره، قال: أفرأيت أن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) ".
وقد قال قائلهم في ذلك شعرا أنشد فيه عبد العزيز بن أبي الحسن القرميسيني قال: أنشدنا أبو بكر محمود بن أحمد المفيد قال: أنشدني الحسن بن علي الباغاني من أهل المغرب قال: أنشدني بكر بن حماد الشاعر المغربي لنفسه:
أرى الخير في الدنيا يقل كثيره وينقص نقصا والحديث يزيد
فلو كان خيرا كان كالخير كله ولكن شيطان الحديث مريد
ولأبن معين في الرجال مقالة سيسأل عنها والمليك شهيد
فإن تك حقا فهي في الحكم غيبة وإن تك زورا فالقصاص شديد
(قلت والقائل (الخطيب البغدادي) وليس الأمر على ما ذهبوا إليه لأن أهل العلم أجمعوا على أن الخبر لا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به وفي ذلك دليل على جواز الجرح لمن لم يكن صدوقا في روايته).
إذن فبعد كل هذا الذي رويناه وأبصرنا من الضرورة الملجئة إلى الكلام في الرجال نستطيع أن ندرك أن علماءنا لم يكن سهلا عليهم أن تكلموا في علماء المسلمين جرحا وتعديلا فهم يعلمون أنهم بين أمرين كل منهما غاية في الصعوبة أن يتكلم في الرجال فيوشك أن يقع في الغيبة إذا ما تجاوز حدود الجرح التي أباحها الله له وهي ما تحفظ به حدود الشريعة ويصان ذمارها.
وبين أن يدع ذلك فيضيع الصحيح في زحمة السقيم ويختلط الحابل بالنابل ويسير الناس على غير هدى.
يقول ابن منده في شروط الأئمة: (فلولا ما روينا عن المصطفى من التشديد في الرواية عنه وما نطق به الكتاب من التثبت في شهادة المتهم وقبول العدل وأهل الرضا ثم عن الصحابة المختارة لصحبته ? والتابعين بعدهم من التوقف والتشديد في هذا الأمر، ووجدنا جماعة من أهل العلم بعدهم اقتصروا على الأخبار الصحيحة عندهم من روايات الثقات المعروفين بالصدق والأمانة فرووها، وطرحوا كثيرا من الحديث الضعيف والروايات المنكرة لما استجرأت على هذا (يعني تجريح المجروحين ورد رواياتهم) ولكني في هذا الأمر مقتد بمن تقدم ذكرهم).
لذا كان لجارحهم شروط ولجرحهم شروط ولقبول هذه الأحكام أصول ومبادئ وهو ما سنتكلم عنه في الفصل القادم إن شاء الله تعالى.
المبحث الرابع/ وسائل ثبوت عدالة الراوي وضبطه
المطلب الأول/ بم تثبت عدالة الراوي؟
المطلب الثاني/ كيف يعرف ضبط الراوي؟
المطلب الأول
بم تثبت عدالة الراوي؟
لما أمرنا الله العلي العظيم أن نتوقف في خبر الفاسق ونتحرى صادق الأخبار من كاذبها كان ذلك-ضمنا-أمرا من الله تبارك وتعالى بالبحث عن حال الرواة ومعرفة العادلين الضابطين ممن سواهم. وقد فهم علماؤنا الأجلاء هذه الحقيقة غاية الفهم ولذلك وضعوا منهجا قويما بموجبه تقبل أخبار من تثبت عدالته ودقة ضبطه وترد أخبار من لم تثبت عدالته وتوضع أخبار من خف ضبطه في موضعها الصحيح.
وثبوت عدالة الراوي لا يكون بطريق واحدة فقط وإنما تثبت العدالة عند جمهور المسلمين بثلاثة طرق لم يختلف عليها إلا من لا يعبأ بخلافه في مثل هذه المواطن .. وهذه الطرق هي:
أولا: التعديل بشهادة الكتاب والسنة:
¥