ومن الوسائل المعتبرة عند أئمة الجرح والتعديل أن يحكم الحاكم أو القاضي في مسألة معنية اعتمادا على شهادة ذلك الشخص الذي يراد تعديله لأن هذا يعد تعديلا لذلك الشخص وقد حكى الاتفاق على هذا ابن الحاجب لأن القاضي لا يمكن أن يحكم بشهادته إلا إذا كان عدلا عنده. غير أن الأمدي قيد هذا النوع من التعديل بما إذا كان القاضي ليس ممن يقبل شهادة الفاسق. فإن كان من مذهبه قبول شهادة الفاسق سقط هذا التعديل عند العلماء.
وهناك طرق أخرى لأثبات العدالة ليست محل اتفاق بين علماء المسلمين نذكرها حتى نلم بأطراف موضوعنا:
الأولى: وهي التي تبناها ورفع لواءها الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر القرطبي حيث قال: (كل حامل علم معروف العناية به، فهو عدل محمول في أمره أبدا على العدالة حتى يتبين جرحه لقوله ?: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله) -.
ووجه الاستدلال عنده أن الحديث يخبر بعدالة الحاملين لعلم الحديث. والمشتغلين به.
وفي حالة ما إذا افترضنا صحة الحديث فإنه لا دليل فيه على ما ذهب إليه ابن عبد البر وإنما يحمل على الأمر لورود رواية صريحة في ذلك. إذ وردت عند ابن أبي حاتم بصيغة الأمر (ليحملْ هذا العلم من كل خلف عدوله). وحتى لو لم يرد بصيغة الأمر فإنه محمول عليها كما في قوله تعالى ((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) أي من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يواد الذين يحادون الله ورسوله. ومع هذا ربما وجدنا من يؤمن بالله واليوم الآخر ثم يواد من حاد الله ورسوله.
الثانية: التعديل بشيوع الرواية عن الراوي: وهي طريقة أبي بكر البزار ومن وافقه فقد تبناها في مسنده حيث أثبت عدالة الراوي برواية جماعة من الجلة عنه.
وذكر الذهبي أن هذا النوع من التعديل شائع عند علماء الحديث فقال: (والجمهور على ان من كان من المشايخ وروى عنه جماعة ولم ينكر عليه أن حديثه صحح).
وهذا التعديل مبني على مبدأ أن رواية العدل تعديل لمن روى عنه وفي هذا نظر وتوقف للمدققين من علماء الحديث.
قال الخطيب البغدادي: (من زعم أن رواية العدل عن غيره تعديل له بأن العدل لو كان يعلم فيه جرحا لذكره، وهذا باطل لأنه يجوز أن يكون العدل لا يعرف عدالته فلا تكون روايته عنه تعديلا ولا خبرا عن صدقه بل يروى عنه لأغراض يقصدها. كيف وقد وجد جماعة من العدول الثقات رووا عن قوم أحاديث أمسكوا بعضها عن ذكر أحوالهم مع علمهم بأنها غير مرضية وفي بعضها شهدوا عليهم بالكذب في الرواية، وبفساد الآراء والمذاهب).
ثم يجب أن يعلم أنه ليس من مذهب جميع المحدثين الإمساك عن الرواية إلا من عدل لكي يقال أن كل من روى عنه العدول فهو عدل.
أخرج الخطيب بسنده إلى شعبة أنه قال سفيان (الثوري) ثقة يروي عن الكذابين.
أما إذا قال المحدث أن كل من أروي عنه ثقة مرضي الحديث كان هذا القول تعديلا لجميع من يروي عنهم هذا المحدث، ومن أمثال هؤلاء عبد الرحمن ابن مهدي.
وفي هذا الصدد يقول السيوطي: (وإذا روى العدل عمن سماه لم يكن تعديلا عند الأكثرين من أهل الحديث وغيرهم وهو الصحيح لجواز رواية العدل عن غير العدل، فلم تتضمن روايته عنه تعديله… وقيل هو تعديل إذ لو علم فيه جرحا لذكره ولو لم يذكره لكان غاشا في الدين وهذا خطأ لأن الرواية تعريف له (أي ترفع الجهالة عن الراوي) والعدالة بالخبرة… وقيل أن كان العدل لا يروي إلا عن عدل كانت روايته تعديلا والإ فلا وأختاره الأصوليون كالأمدي وابن الحاجب).
بقي أن نعرف بعد هذا الدواعي التي حملت الرواة العدول على التحديث عمن ليسوا محل ثقة عندهم.
فقد روى السيوطي بسنده عن الشعبي أنه قال: (حدثنا الحارث وأشهد بالله أنه كان كاذبا) فإذا كان معلوم الكذب فلماذا يكتب حديثه وينقل؟!!
الجواب على ذلك في هذه الرواية.
قال السيوطي (روى الحاكم وغيره عن أحمد بن حنبل أنه قيل ليحيى بن معين وهو يكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس أتكتبها وتعلم أنها موضوعة؟!! فلو قال لك قائل أنت تتكلم في أبان ثم تكتب حديثه؟!
فقال يا أبا عبد الله اكتب هذه الصحيفة واحفظها كلها واعلم أنها موضوعة حتى لا يجيء إنسان فيجعل بدل أبان ثابتا ويرويها عن معمر عن ثابت عن أنس
فأقول له كذبت إنما هي عن معمر عن أبان لا عن ثابت).
¥