هذا بالنسبة لمن كان متهما بالكذب في حديثه أما الأسباب التي دعت العدول إلى التحديث عن الضعفاء فهذا ما أوضحه الإمام مسلم في مقدمته حينما قال: (قد يقال لم حدث الأئمة عن هؤلاء مع علمهم بأنهم لا يحتج بهم ويجاب عنه بأجوبة:
أحدهما: أنهم رووها ليعرفوا وليعينوا ضعفها لئلا يلتبس في وقت عليهم.
الثاني: أن الضعيف يكتب حديثه ليعتبر أو يستشهد ولا يحتج به على انفراده.
الثالث: رواية الضعيف يكون فيها الصحيح والضعيف والباطل، فيكتبونها ثم يميز أهل الحديث والإتقان بعض ذلك من بعض، وذلك سهل عليهم ومعروف عندهم.
الرابع: أنهم يروون عنهم أحاديث الترغيب والترهيب، وفضائل الأعمال والقصص وأحاديث الزهد ومكارم الأخلاق ونحو ذلك مما لا يتعلق بالحرام وهذا الضرب من الحديث يجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل فيه ورواية ما سوى الموضوع فيه والعمل به لأن أصول ذلك صحيحة مقررة في الشرع.
يقول جمال الدين القاسمي: (إن من العلماء من كان يسمع حديث من يكذب ويقول إنه يميز بين ما يكذبه وبين ما لا يكذبه ويذكر عن الثوري إنه كان يأخذ عن الكلبي وينهى عن الأخذ منه، ويذكر إنه يعرف ومثل هذا أنفع لمن كان خبيرا بشخص إذا حدثه بأشياء يميز بين ما صدق فيه وما كذب فيه بقرائن لا يمكن ضبطها، وخبر الواحد قد تقترن به قرائن تدل على أنه صدق وقرائن تدل على أنه كذب).
الثالثة: التعديل بالعمل أو الفتوى بمقتضى رواية الراوي:
اختلف علماء الحديث فيما إذا أفتى العالم أو عمل على وفق رواية شخص ما، هل يكون هذا العمل أو هذه الفتوى تعديلا وتوثيقا من ذلك العالم لراوي هذا الحديث الذي عمل بمقتضاه؟!
فالخطيب البغدادي ومن وافقه يذهبون إلى أنه (إذا عمل العالم بخبر من يروي عنه لأجله فإن ذلك تعديل له يعتمد عليه).
وحجته في ذلك أن العالم (لم يعمل بخبره إلا وهو رضا عنده عدل، فقام عمله بخبره مقام قوله هو عدل مقبول الخبر، ولو عمل العالم بخبر من ليس هو عنده عدلا لم يكن عدلا يجوز الأخذ بقوله، والرجوع إلى تعديله، لأنه إذا احتملت أمانته أن يعمل بخبر من ليس بعدل عنده احتملت أمانته أن يزكي ويعدل من ليس بعدل).
بينما ذهب ابن الصلاح ومن وافقه إلى أن (عمل العالم أو فتياه على وفق حديث ليس حكما منه بصحة ذلك الحديث، وكذا مخالفته للحديث ليست قدحا منه في صحته ولا في روايته).
وعلق ابن كثير على كلام ابن الصلاح آنف الذكر ولم يرض إطلاقه على العموم فقال: وفي هذا (أي في كلام ابن الصلاح الذي ذكرناه قبل قليل) نظر: إذا لم يكن في الباب غير ذلك الحديث أو تعرض للاحتجاج به في فتياه أو استشهد به عند العمل بمقتضاه.
والحق أن في كلام ابن كثير هذا نظرا: إذ-كما قال السخاوي-ربما كان المفتي ممن يرى العمل بالحديث الضعيف ويقدمه على القياس، فهو يعمل به مع علمه أن راوي الحديث ضعيف. إذ هو عنده خير من النزول إلى القياس أو غيره من أدلة الشرع.
أو أن العالم يعمل بذلك الحديث احتياطا إذا كان ما يرويه عن طريق ذلك زيادة على ما هو ثابت فيعمل به زيادة في الاحتياط.
الرابعة: التعديل بعدم ثبوت الجرح فيه:
وممن قال بهذا النوع من التعديل الإمام ابن حبان فهو ينطلق من (أن العدل من لم يعرف فيه الجرح، إذ التجريح ضد التعديل، فمن لم يجرح فهو عدل حتى يتبين جرحه).
وممن تبنى هذا النوع من التعديل طائفة من أهل العراق نقل ذلك عنهم الخطيب البغدادي في الكفاية فقال: (وزعم أهل العراق أن العدالة هي إظهار الإسلام، وسلامة المسلم من فسق ظاهر فمتى كانت هذه حاله وجب أن يكون عدلا).
وحجة هؤلاء فيما رواه ابو داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء إعرابي إلى النبي ? فقال: (إني رأيت الهلال، قال الحسن في حديثه يعني رمضان، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله، قال: نعم، قال: أتشهد أن محمدا رسول الله، قال: نعم، قال: يا بلال إذن في الناس فليصوموا غدا).
فالنبي ? قد قبل شهادة هذا الاعرابي اعتمادا على ظاهر إسلامه، وقبوله الشهادة تعديل كما أسلفنا قبل ذلك.
ويرد على هؤلاء بما ذكره الخطيب من أن ليس هناك ما يمنع أن يكون هذا الاعرابي عدلا أو أنه معروف عند النبي ? بعدالته أو نزول الوحي على الرسول ? بأنه صادق أو أخبار قوم بصدقه وعدالته.
¥