أما غيرهم من المحدثين فقالوا (انه يجب الاستظهار في البحث عن عدالة المخبر بأكثر مما يجب عن عدالة الشاهد، فثبت ان العدالة شيء زائد على ظهور الإسلام يحصل بتتبع الأفعال واختبار الأحوال)
المطلب الثاني
كيف يعرف ضبط الراوي
بعد أن تكلمنا في الشروط التي وضعها علماء الحديث في حق من يتصدى لأمر تبليغ سنة رسول الله ? من عدالة وضبط. وتكلمنا بعد ذلك عن الوسائل التي تثبت بها عدالة الراوي. بقي علينا أن نتحدث عن المعيار الذي بموجبه تعرف جهابذة السنة المشرفة على ضبط الراوي واتقانه أو تساهله في أمر الرواية. لأن المحدث لا يكون مرضي الرواية بمجرد ثبوت عدالته وتقواه.
قال أبو بكر الخطيب البغدادي: (وإذا سلم الراوي من وضع الحديث، وادعاء السماع ممن لم يلقه واجتنب الأفعال التي تسقط بها العدالة، غير انه لم يكن له كتاب بما سمعه فحدث من حفظه لم يصح الاحتجاج بحديثه حتى يشهد له أهل العلم بالأثر والعارفون به أنه ممن قد طلب الحديث وعاناه وضبطه وحفظه).
إذ إن لهذا الحفظ والضبط أثرا بالغا في تفاوت درجة المحدثين بعد ثبوت عدالتهم. قال الترمذي: (وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والاتقان والتثبت عند السماع مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم).
وكذلك فإن له أثرا واضحا في رد رويات من ساء حفظهم.
يقول الترمذي: (وقد تكلم بعض أهل الحديث في قوم من جلة أهل العلم وضعفوهم من جهة حفظهم ووثقهم أخرون من الآئمة بجلالهم وصدقهم… وذكر عن يحيى بن سعيد أنه كان إذا رأى الرجل يحدث من حفظه مرة هكذا ومرة هكذا لا يثبت على حالة واحدة تركه).
ولكن هذا لايعني أن الحفظ وطلب الحديث هو المعول عليه وحده في قبول مرويات الرجال. فالعدالة تبقى أولا ثم الحفظ ثانيا. يقول الخطيب البغدادي:
(وإذا كان الراوي من أهل الأهواء والمذاهب التي تخالف الحق لم نسمع عنه وإن عرف بالطلب والحفظ).
وانطلاقا من شعور علماء الإسلام بعظم هذا الأمر ومساسه المباشر بالدين القيم فقد أرسوا القواعد وخطوا المسار الذي بموجبه يعرف ضبط الضابطين وتساهل المتساهلين وإن كان مدار ذلك كله على الاجتهاد والنظر.
قال الباجي في التعديل والتجريح: (أحوال المحدثين مما يدرك بالاجتهاد، ويعلم بضرب من النظر).
فإذا أردنا أن نترسم آثار ذلك المنهج الذي وضعه المحدثون رأينا أن ضبط الراوي يثبت أو يعرف عندهم بأحد هذه الأمور التي وجدناها مبثوثة في كتبهم دون ان يعنونوا لها صراحة في كتب المصطلح وإنما وجدناها من خلال النظر والفكر.
وهذه الوسائل هي:
أولا: معرفة ضبط الراوي بالشهرة والاستفاضة:
وهذه الطريقة وإن لم ينص عليها في كتب الحديث القديمة في ثبوت ضبط الراوي إلا إنها تذكر في طليعة الطرق التي تثبت بها عدالة الراوي كما ذكرنا ذلك في المبحث السابق-أقول-إن هذه الطريقة وإن لم ينص عليها إلا إنها مما لايمكن إغفالها لأن غيرها من الطرق مبني عليها، فالعلماء المحدثون الذين أطبقت شهرتهم الآفاق لم نر في كتب الحديث أنه قد استدل على ضبطهم بمقابلة مروياتهم بمرويات غيرهم بل إن مرويات غيرهم تنقاس على مروياتهم.
فمن أجمعت الأمة على حفظه واتقانه واشتهر بهذا الأمر شهرة واسعة كان ذلك شهادة له على حفظه يستغنى معه أن نمتحن أو نقابل مروياته بمرويات غيره.
وقد ذكر الدكتور مساعد مسلم آل جعفر ذلك في كتابه الموجز في علوم الحديث فقال: في أثناء كلامه على طرق ثبوت العدالة: (باشتهاره بالعدالة والضبط بين أهل العلم اشتهارا يغني عن السؤال مثل مالك وشعبة والسفيانين وأبي حنيفة وأمثالهم… فهؤلاء لا يسأل عنهم).
ثانيا: مقابلة مرويات الراوي بما هو محفوظ عن الثقات:
وهذه الطريقة أكثر الطرق شيوعا لأن السواد الأعظم من الذين تصدوا للعمل في الحديث ليسوا أئمة فيه فوجب التأكد من حفظهم. وقد نص على هذه الطريقة أغلب من صنف في مصطلح الحديث.
قال ابن الصلاح: (ويعرف كون الراوي ضابطا بأن تعتبر رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والاتقان، فإذا وجدنا رواياته موافقه-ولو من حيث المعنى-لرواياتهم أو موافقه لها في الأغلب، والمخالفة نادرة عرفنا حينئذ كونه ضابطا وثبتا وإن وجدناه كثير المخالفة لهم عرفنا اختلال ضبطه ولم نحتج بحديثه).
¥