ويوضح الباجي هذا الأمر بشيء من التفصيل فيقول: (ووجه ذلك أن الإنسان إذا جالس الرجل وتكررت محادثته له وإخباره إياه بمثل ما يخبر ناس عن المعاني التي يخبر عنها تحقق صدقه وحكم بتصديقه. فإن اتفق له أن يخبر في يوم من الأيام أو وقت من الأوقات بخلاف ما يخبر ناس عن ذلك المعنى أو بخلاف ما علم منه المخبر أعتقد فيه الوهم والغلط، ولم يخرجه ذلك عنده من رتبة الصدق الذي ثبت من حاله وعهد من خبره، وإذا أكثرت مجالسة أخر وكثرت محادثته لك فلا يكاد يخبرك بشيء إلا ويخبرك أهل الثقة والعدالة عن ذلك المعنى بخلاف ما أخبرك به غلب على ظنك كثرة غلطه وقلة استثباته واضطراب أقواله، وقلة صدقه، ثم بعد ذلك قد تثبت له من حاله العمد أو الغلط وبحسب ذلك تحكم في أمره، من كان في أحد هذين الطريقين لا يختلف في جرحه أو تعديله).
وقد ذكرالسيوطي في ألفيته هذا النوع من اثبات الضبط لمن اتصف به فقال:
يحفظ ان يمل كتابا يضبط ان يرو منه، عالما ما يسقط
ان يرو بالمعنى، وضبطه عرف إن غالبا وافق من به وصف
ثالثا: امتحان الراوي: ومن طرق اثبات ضبط الراوي واتقانه امتحانه واختباره حتى يتضح أمره. والامتحان يكون على عدة أوجه وهي:
1.قلب الأحاديث على الراوي: ومعناه أن يوضع اسناد حديث لمتن حديث آخر لينظر هل يتنبه على ذلك الراوي أم لا.
يقول الخطيب البغدادي: (ويعتبر اتقانه وضبطه بقلب الأحاديث عليه).
ومما يذكر في هذا الباب أن الإمام البخاري لما قصد بغداد وسمع أهلها بمقدمه أرادوا أن يمتحنوا حفظه فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر ودفعوا إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم أن يحضروا المجلس مع أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرها، فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب إليه رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال: لا اعرفه، فما زال يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول: لا اعرفه فكان الفقهاء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون الرجل فهم، ومن كان منهم غير ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم، ثم انتدب رجل آخر من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة فقال البخاري: لا اعرفه، فسأله عن آخر فقال: لا اعرفه فلم يزل يلقي عليه واحدا بعد آخر حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول: لا اعرفه، ثم انتدب إليه الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة والبخاري لا يزيدهم على لا أعرفه، فلما علم البخاري أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال: أما حديثك الأول فهو كذا وحديثك الثاني والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة فرد كل متن إلى اسناده وكل اسناد إلى متنه وفعل بالآخرين مثل ذلك، ورد الأحاديث كلها إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها فأقروا له بالحفظ وأذعنوا له بالفضل.
وأخرج الخطيب في الجامع بسنده عن حماد بن سلمة أنه قال: (كنت أقلب على ثابت البناني حديثه، وكانوا يقولون: القصاص لا يحفظون وكنت أقول لحديث أنس: كيف حدثك عبد الرحمن بن أبي ليلى؟ فيقول: لا إنما حدثنا أنس، وأقول لحديث عبد الرحمن بن أبي ليلى كيف حدثك أنس؟ فيقول لا إنما حدثناه عبد الرحمن بن أبي ليلى).
وأخرج عنه كذلك قال: قلبت أحاديث على ثابت البناني فلم تنقلب، وقلبت على أبان ابن أبي عياش فانقلبت.
- وعن أحمد بن علي الابار قال: (سمعت مجاهدا وهو ابن موسى يقول: دخلنا على عبد الرحمن بن مهدي في بيته فدفع إليه (يعني حارثا الثقال) رقعة فيها حديث مقلوب فجعل يحدثه حتى كاد أن يفرغ ثم فطن فنقده فرمى به وقال: كادت والله تمضي، كادت والله تمضي).
- وعن أبي العباس بن عقدة قال: (خرج أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني إلى الكوفة إلى أبي نعيم، فدلس عليه يحيى بن معين أربعة أحاديث، فلما فرغوا رفس يحيى بن معين حتى أقلبه ثم قال: أما أحمد؛ فيمنعه ورعه من ذلك وأما هذا-يعني عليا- فتحنثه يمنعه، وأما أنت؛ فهذا من عملك، ثم قال يحيى: كانت تلك الرفسة أحب ألي من كل شيء).
2.أن يسأل عن أحاديثه التي كان قد حدث بها من قبل:
¥