وكان المحدثون يعرفون مروءة الإنسان بما يظهر عليه من سمت الصلاح وعدم مخالفة السائد الذي عليه الناس ما لم يكن أثما. وبما يلاحظ على الإنسان من محافظته على سنن الفطرة. يقول ابن حجر بصدد مراعاة تلك السنن (وفي المحافظة عليها محافظة على المروءة وعلى التآلف المطلوب لأن الإنسان إذا بدا في الهيئة الجميلة كان ادعى لانبساط النفس إليه فيقبل قوله ويحمد رأيه والعكس بالعكس).
وعلى هذا فان من اتهم بانخرام مروءته فالواجب أن يكشف عما به خرمت مروءته. فان كان ما رمي به مما يستوي في الحكم عليه جميع الناس أولا يتغير بتغير الزمان والمكان كالسفه وما إلى ذلك كانت روايته مردودة.
وأما أن كان ما رمي به معدوداً من خوارم المروءة لمخالفته عرفاً سائداً فينظر حينئذ إلى تلك المخالفة فقد يجوز أن يكون خرماً عند الجارح فقط دون غيره فلا يعبأ بقوله عند ذاك كما مثل لذلك بما اخرج الخطيب بسنده إلى أبي جعفر المدائني. قال قيل لشعبة لم تركت حديث فلان؟ قال رأيته يركض على برذون فتركت حديثه).
فما بعد خارماً للمروءة عند واحد قد لا يوافقه عليه غيره من المحدثين. لكن هذا لا يعني أن يكون المحدث حاله حال غيره لأن من اشتغل بطلب العلوم الشرعية يجب عليه أن يكون على مستوى من السكينة والوقار وقد قال النبي ?: (تعلموا العلم فإذا علمتموه فاكظموا عليه ولا تشوبوه بضحك ولا بلعب فتمجه القلوب).
ولذا (قال كثير من الناس يجب ان يكون المحدث والشاهد مجتنبين لكثير من المباحات نحو التبذل والجلوس للتنزه في الطرقات، والأكل في الأسواق، وصحبة الأرذال، والبول على قو ارع الطرقات، والبول قائما، والانبساط إلى الخرق في المداعبة والمزاح وكل ما اتفق على انه ناقص القدر والمروءة، ورأوا إن فعل هذه الأمور يسقط العدالة ويوجب رد الشهادة).
والذي أراه في هذه المسألة إن خوارم المروءة يرجع فيه إلى أهل البصائر والإنصاف وان لا ينفرد أحد في تحديدها فلكل راو شأن خاص به وحكم يطلق بناء على عموم سيرته وأحواله.
وهو رأي الخطيب البغدادي حينما قال: (والذي عندنا في هذا الباب رد خبر فاعلي المباحات إلى العالم والعمل في ذلك بما يقوى في نفسه فان غلب على ظنه من أفعال مرتكب المباح المسقط للمروءة انه مطبوع على فعل ذلك، والتساهل به، مع كونه ممن لا يحمل نفسه على الكذب في خبره وشهادته، بل يرى إعظام ذلك وتحريمه والتنزه عنه قبل خبره. وان ضعفت هذه الحال في نفس العالم واتهمه. عندها وجب عليه ترك العمل بخبره ورد شهادته).
فليس كل الذين يأتون المباحات على درجة واحدة فمنهم من يفعل ذلك مع صلاح ظاهر ودين جلي ومنهم من يفعله حتى يكون هو الغالب على سمته. فلكل مقام ولكل مقال.
المطلب الثالث
المبتدع وحكم روايته:-
المبتدع اسم فاعل من الابتداع والابتداع في اصل اللغة الاختراع على غير مثل. ومنه (بديع السموات والأرض) أي مبدعهما ومنشئهما على غير مثال سابق.
والبدعة الحدث في الدين بعد الإكمال. وقد قال الرسول ?: (فان خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة).
وقال ?: (من احدث في امرنا هذا ما ليس فيه فهو رد) وبالنظر في معنى هذا الحديث فان الرد لا يتناول كل أمر محدث وانما مختص بما ليس في دين الله تبارك وتعالى.
ولذا يقول ابن الأثير الجزري والبدعة بدعتان بدعة هدى وبدعة ضلال فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله فهو في حيز الذم والإنكار.
وما كان واقعا تحت عموم ما ندب الله إليه فهو في حيز المدح وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به لأن النبي? قد جعل له في ذلك ثواباً فقال (من سن سنة حسنة كان له اجرها واجر من عمل بها) وقال في ضده (ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها) وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله ?. ومن هذا النوع قول عمر ? عن صلاة التراويح نعمت البدعة هذه لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح سماها بدعة ومدحها لأن النبي ? لم يسنها لهم وانما صلاها ليالي ثم تركها ولم يحافظ عليها ولا جمع الناس لها.
¥