رابعا: إن في عدم قبول روايته إخماد لبدعته وفي قبولها ترويج لأمره وتنويه بذكره. ولذا فان كثيراً من العلماء قال إن كان الحديث يروى من طريق اخرى غير طريق صاحب البدعة فانه يضرب الصفح عن روايته إخمادا لبدعته وإماتة لشأنه.
المذهب الثالث:-
وهو مذهب التفصيل بين أن يكون المبتدع داعية أو غير داعية يقول ابن حجر (وصارت إليه الطوائف من الأئمة وادعى ابن حبان إجماع أهل النقل عليه لكن في دعوى ذلك نظر).
وقد نقل ابن الصلاح كلام ابن حبان بهذا الخصوص فقال: (وقال: أبو حاتم بن حبان البستي) أحد المصنفين من أئمة الحديث: الداعية إلى البدع لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا قاطبة لا اعلم بينهم فيه خلافاً).
لكن الذين قالوا بهذا التفصيل اختلفوا فيما بينهم على أربعة آراء وهي:-
أولاً: اكتفى جماعة بهذا التفصيل فقالوا يقبل حديث غير الداعية ويرد حديث الداعية.
ثانياً: وذهب جماعة إلى القول بأن رواية غير الداعية إن اشتملت على ما يشيد بدعته ويزينها ردت وان لم تشتمل على ذلك قبلت.
ثالثاً: وقال آخرون إن اشتملت روايته على ما يرد بدعته قبلت وإلا فلا.
رابعا: وذهب أبو الفتح القشيري وابن دقيق العيد إلى إن المبتدع إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه إخمادا لبدعته وإطفاء لناره، وان لم يوافقه أحد ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده فينبغي إن تقدم مصلحة تقديم ذلك الحديث ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء بدعته.
والذي يبدو والله اعلم إن الراجح من هذه الآراء هو ما كان عليه الشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف والبخاري. الذين قالوا إن أهل الأهواء يؤخذ حديثهم إن لم يكونوا ممن يستحلون الكذب. وقد اشتهر عن الشافعي قوله:
(أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم).
بقي أن نعلم إن علماءنا الإجلاء لم يفتهم إن ليس كل من رمي بالابتداع كان كذلك فان من المبدع ما لم يثبت في حق صاحبها. وانما رمي بذلك زوراً وبهتاناً وكذلك فان المدلولات تتغير بتغير الزمان فلا يجوز إن ينظر إلى من رمي بالتشيع مثلاً في التابعين بنفس ما ينظر إلى من اتهم بذلك في العصور المتأخرة.
يقول ابن حجر: (قال ابن حرير لو كان كل من ادعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادعي به وسقطت عدالته وبطلت شهادته للزم ترك اكثر محدثي الأمصار لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه).
واما بخصوص تطور المصطلحات وتغيرها من وقت إلى آخر فاستمع إلى ابن حجر يقول: (فالتشيع في عرف المتقدمين هو اعتقاد تفضيل علي على عثمان، وان علياً كان مصيباً في حروبه وان مخالفه مخطئ مع تقديم الشيخين وتفضيلها. وربما اعتقد أن عليا افضل الخلق بعد رسول الله ? وإذا كان معتقد ذلك ورعاً ديناً صادقاً مجتهداً فلا ترد روايته، … واما التشيع في عرف المتأخرين فهو الرفض المحض فلا تقبل رواية الرافضي الغالي ولا كرامة).
المطلب الرابع
الكذاب والمتهم بالكذب وحكم الرواية عنهما:-
ومما تسقط به العدالة بل ابرز ما تسقط به العدالة أن يثبت كذب الراوي أو يتهم بالكذب.
فالكذاب عند المحدثين هو من يروي عن النبي ? ما لم يقله أو يفعله أو يقره متعمداً.
والحديث الذي يرويه الكذاب هو (الموضوع)
(فالموضوع هو الخبر الذي يختلقه الكذابون وينسبونه إلى رسول الله ? افتراءً عليه).
وقد بشر النبي ? أولئك الذين يتجرءون بالتقول عليه ? بالنار. فقال ? في الحديث المتواتر: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).
وقد اجمع العلماء على أن من ثبت كذبه لا تحل الرواية عنه بأي حال من الأحوال. قال الخطيب: (وكل من ثبت كذبه رد خبره وشهادته) بل ان الأثر ورد بجعل من يروى الحديث المختلق وهو يعلم باختلاقه أحد الكاذبين.
فقال ? (من حدث عني بحديث يرى انه كذب فهو أحد الكاذبين).
واما المتهم بالكذب فهو من لم ينص العلماء صراحة على أنه يضع الحديث لكن حصل الظن موقوعة منه. ويسمى حديثه (المتروك). فيقولون (فلان متروك متهم بوضع الحديث).
ويرمى الراوي بالكذب في حالتين:-
الأولى:- إن يرد حديث يخالف أصول الشريعة وثوابتها ثم لا يكون في السند من يوجه إليه الاتهام إلا هو. فيكون حينئذ هو المتهم بذلك الحديث.
¥