بل نسب ابن حجر هذا الرأي إلى أئمة الحديث عموماً فقال: (ومن اكثر من التدليس لم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع) وكذلك حكاه العيني عن أبي زرعة فقال في أثناء كلامه على محمد بن إسحاق فقال: (محمد بن إسحاق بن يسار مدلس قد كذبه مالك وضعفه احمد وقال: لا يصح الحديث عنه وقال: أبو زرعة لا نقضي له بشيء فلا يحتج به لأن حكم من ثبت عنه التدليس إذا كان عدلاً لا يقبل منه إلا ما صرح به في الحديث على الأصح).
ثانياً:- ذهب ابن حبان ومن معه إلى أن من كان التدليس غالباً عليه فهو مردود الرواية، والعكس بالعكس.
فقد جاء في ترجمة علي بن غالب الفهري (كان كثير التدليس فيما يحدث حتى وقع المناكير في روايته وبطل الاحتجاج بها لأنه لا يدري سماعه لما يروي عمن يروي في كل ما يروى. ومن كان هذا نعته كان ساقط الاحتجاج بما يروى لما عليه الغالب من التدليس).
ثالثاً:- وذهب بعض أهل العلم مذهباً آخر فقالوا (إذا دلس المحدث ممن لم يسمع منه ولم يلقه وكان ذلك الغالب على حديثه لم تقبل رواياته، واما إذا كان تدليسه عمن قد لقبه وسمع منه فيدلس عنه رواياته ما لم يسمعه منه فذلك مقبول بشرط أن يكون الذي دلس عنه ثقة).
رابعاً:- ذهب بعض أهل العلم إلى قبول رواية من كان لا يدلس إلا عن ثقة وان لم يصرح بالسماع من أمثال سفيان بن عينية.
ولأن التدليس لا يمكن أن يحكم عليه حكماً واحدا بسبب تفاوت أنواعه وتفاوت المدلسين في تدليسهم فقد قسم العلائي المدلسين على أربع مراتب لكي يستعان بها في الحكم على روايات المدلسين وهذه المراتب هي:
المرتبة الأولى:-
من لم يوصف بذلك إلا نادراً بحيث انه ينبغي أن لا يعد منهم مثل يحيى بن سعيد الأنصاري وهشام بن عروة وموسى ابن عقبة.
المرتبة الثانية:-
من احتمل تدليسه وخرجوا له في الصحيح وان لم يصرح بالسماع وذلك لإمامته وقلة تدليسه في جنب ما روى. مثل سفيان الشوري أو كان لا يدلس إلا عن ثقة مثل سفيان بن عينية.
المرتبة الثالثة:-
من اكثر من التدليس فلم يحتج الأئمة بشيء من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع ومنهم من رد حديثهم مطلقا ومنهم من قبله مطلقا مثل أبي الزبير محمد بن مسلم المكي.
المرتبة الرابعة:-
من ضعف بأمر آخر سوى التدليس فحديثهم مردود ولو صرحوا بالسماع إلا من يوثق من كان ضعفه يسيرا مثل عبد الله ابن لهيعة.
وفي نهاية هذا المبحث أود أن اذكر أقوال بعض الأئمة الكارهين للتدليس فيه. وكان الإمام شعبة بن الحجاج من اشد العلماء على المدلسين. فقد اخرج بن أبي حاتم قوله: (اخبرنا أبي قال سمعت أبا نعيم يقول سمعت شعبة يقول لان أرني احب إلى من أن أدلس).
واخرج الخطيب بسنده إلى عمر بن عبد العزيز بن مقلاص قال سمعت أبي يقول سمعت الشافعي يقول قال شعبة بن الحجاج (التدليس أخو الكذب).
وأخرج كذلك بسنده إلى خالد بن خراش، قال: سمعت حماد بن زيد يقول التدليس كذب ثم ذكر حديث النبي ? والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور قال حماد ولا اعلم المدلس إلا متشبعاً بما لم يعط.
واخرج الحاكم بسنده إلى عبد الصمد بن عبد الوارث (يحدث عن أبيه قال التدليس ذل) قال سليمان (التدليس والغش والغرور والخداع والكذاب بحشر يوم تبلى السرائر في نفاذ واحد).
واخرج الخطيب (عن أبي الربيع الزهراني قال كان ابن المبارك يقول: لأن نخر من السماء احب إلى من أن ندلس حديثا).
واخرج أيضا بسنده إلى (هاشم بن زهير أخا الفياض قال كان وكيع ربما قال في الحديث حدثنا وربما لم يقل، قال فقلنا لجار لنا يقال له أبو الوفاء كان لا يحسن شيئا سله لم يقول في بعضه حدثنا ولا يقول في بعضه؟ قال فتقدم إليه فسأله فقال له وكيع أما وجد القوم خطيباً غيرك نحن لا نستحل التدليس في الثياب فكيف في الحديث).
المبحث الرابع
ما يتعلق بضبط الراوي
قلنا إن علماء الحديث نصوا على توافر شروط معينة فيمن يريد أن يتصدى لحمل حديث رسول الله ? وابلاغه إلى الناس فقالوا: يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلاً ضابطاً لما يرويه، وتفصيله:
أن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً مسلماً من أسباب الفسق وخوارم المروءة. متيقضاً غير مغفل، حافظاً إذا حدث من حفظه ضابطاً لكتابه ان حدث من كتابه وان كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك ان يكون عالماً بما يحيل المعاني.
¥