وقال كذلك (والكلام في الرجال يحتاج إلى ورع تام وبراءة من الهوى).
ثالثا: أن يكون يقظا متثبتا:
إذ ليس كل من كان ورعا تقيا جاز له أن يتكلم في الرجال جرحا وتعديلا بل يجب أن يكون-فوق عدالته وورعه وتقواه-يقظا متثبتا لا يخلط بين أحكامه ولا تشتبك عليه الأمور.
قال الذهبي في ميزانه: (وينبغي على المتصدي للنقد أن يكون ثبيتا).
وقال ابن حجر في شرح النخبة: (وينبغي أن لا يقبل الجرح إلا من عدل متيقظ)،
إذ إن قوام هذا الأمر قائم على الفهم الدقيق واليقظة التامة.
قال الإمام الذهبي (ولا سبيل إلى أن يصير العارف-الذي يزكي نقلة الأخبار ويجرحهم-جهبذا إلا بادمان الطلب والفحص عن هذا الشأن وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والانصاف والتردد إلى العلماء والاتقان).
رابعا: أن يكون عارفا بأسباب الجرح والتعديل:
وهو من أهم الشروط التي ركز عليها علماؤنا الأجلاء لأن العوام من الناس يتبادر إلى أذهانهم أنه إذا استكمل الإنسان عدالته وتقواه وتثبته جاز له بعد ذلك أن يخوض غمار هذا العلم لكن علماء الحديث اشترطوا فوق ذلك أن يكون عالما بأسباب الجرح والتعديل إذ إن مسقطات العدالة لها حدود ثابتة يجب أن يلم بها المجرح. وكذلك ما يثبت عدالة الراوي يجب أن يكون معلوما له.
قال الإمام النووي: (إنما يجوز الجرح لعارف به مقبول القول فيه، أما إذا لم يكن الجارح من أهل المعرفة أو لم يكن ممن يقبل قوله فيه فلا يجوز له الكلام في أحد من الناس فان تكلم كان كلامه غيبة محرمة).
وقال كذلك: (والجرح لا يقبل إلا من عارف بأسبابه).
وقال الإمام تاج الدين السبكي: (من لا يكون عالما بأسبابهما-أي الجرح والتعديل-لا يقبلان منه لا بإطلاق ولا بتقييد).
لأن الجارح إذا لم يكن عالما بأسباب الجرح والتعديل فإنه لا يؤمن والحالة هذه أن يجرح بما ليس بجرح. وكذلك الحال بالنسبة للمعدل إذ جهله بذلك يمكن أن يجعله يصدر حكمه بتعديل من لايستحق العدالة لعوارض يراها يحسبها مما تثبت بها العدالة وهي في حقيقتها بخلاف ذلك.
بقي أن نعرف أن الجرح والتعديل لا يشترط فيمن يقوم بهما أن يكون ذكرا أو حرا فقد أجازوا تعديل المرأة وتجريحها إذا استوفت الشروط الآنفة الذكر. وكذلك أجازوا تعديل العبد وتجريحه بعد أن تثبت له شروط المعدل والجارح التي تكلمنا عنها.
والتأصيل الشرعي في هذه المسألة هو سؤال النبي? بريرة في قصة الافك عن حال عائشة أم المؤمنين وجوابها له. ومعلوم أن بريرة، امرأة أمة، فلما سألها النبي? دل ذلك أن النبي? أسقط شرط الذكورة والحرية.
أخرج البخاري بسنده الى عائشة من قصة حديث الافك قولها (فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال يا بريرة: هل رأيت منها شيئا يريبك؟ فقالت: لا والذي بعثك بالحق ان رأيت منها امرا اغمضه عليها قط اكثر من انها جارية حديثة السن تنام عن العجين فتأتي الداجن فتأكله)
وأخرج الخطيب البغدادي قول القاضي أبي بكر بن الطيب: (أنه قال قائل: أفترون وجوب تعديل المرأة العارفة بما يجب أن يكون عليه العدل وما به يحصل الجرح قيل أجل ولا شيء يمنع من ذلك إجماع أو غيره فلو حصل على منعه توقيف إجماع أو إجماع لمنعناه وتركنا له القياس وإن كان أكثر الفقهاء من أهل المدينة وغيرهم لا يقبل في التعديل النساء ولا يقبل فيه أقل من رجلين).
أما تزكية الصبي المراهق والغلام الضابط لما يسمعه فلا أعلم أن أحدا أجاز جرحه وتعديله وسبب ذلك (أن الغلام وإن كانت حاله ضبط ما سمع والتعبير عنه على وجهه فإنه غير عارف بأحكام أفعال المكلفين وما به يكون العدل عدلا والفاسق فاسقا، وان يكمل لذلك المكلف، فلم يجز لذلك قبول تزكيته ولأنه لا تعبد عليه في تزكية الفاسق وتفسيق العدل فإن لم يكن لذلك خائفا من مأثم وعقاب لم يؤمن منه تفسيق العدل، وتعديل الفاسق. وليس في هذه حال المرأة والعبد فافترق الأمر فيها).
المبحث الثاني
الصفات المعتبرة في الجرح والتعديل
ولكي يكون الجرح أو التعديل معتبرا عند أئمة الحديث لابد له من أن يكون مستكملا للشروط التي وضعها أولئك الأئمة للجرح الصحيح أو التعديل المعتمد.
¥