ومن يعمل النظر في كتب المصطلح وكتب الرجال يستطيع أن يرى بوضوح أن هناك مسألتين بارزتين تحددان مناهج العلماء واتجاهاتهم في الشروط المعتمدة في قبول الجرح والتعديل.
وهاتان المسألتان هما:
- مسألة التفسير والإبهام في الجرح والتعديل.
- ومسألة اشتراط العدد أو عدم ثبوت ذلك في الجرح أو التعديل.
- وهناك مسألة أخرى سنؤخر الكلام عليها في مبحث مستقل لأهميتها وهي مسألة الضوابط المعتبرة في الموازنة بين الجارحين والمعدلين عند تعارض أحكامهم في راو واحد.
وسنتكلم على هذه المسائل تباعا إن شاء الله تعالى ونحن مستشعرون صعوبة المسلك الذي ولجه أئمتنا الأفاضل إذ الأمر كما يقول إمامنا القشيري (ابن دقيق العيد): (أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان من المسلمين المحدثون والحكام).
المسألة الأولى: الجرح والتعديل بين الإبهام والتفسير:
والمقصود بالإبهام هو أن يطلق الجارح أو المعدل حكمه على راوي الحديث من دون أن يوضح سبب حكمه فيقول مثلا فلان ضعيف أو متروك الحديث من دون يتبع هذا الحكم بأي تفسير. وكذلك الحال في التعديل فيقول فلان ثقة، أصالح الحديث أو… الخ.
أما التفسير فهو أن يوضح المعدل أو الجارح سبب حكمه فمثلا يقول فلان ساقط العدالة لأني رأيته يشرب الخمر. أو أن يقول فلان ثقة لأني صحبته فلم أجده يقارف إثما.
وقد أختلف العلماء في وجوب التفسير في الجرح والتعديل على مذاهب نجملها فيما يلي:
1.ذهب جمهور العلماء إلى أن الجرح لا يقبل إلا مفسرا أما التعديل فيقبل مبهما أي من دون ذكر سببه.
قال ابن الصلاح: (والتعديل مقبول من غير ذكر سببه على الصحيح المشهور). وقال في الجرح: (وأما الجرح فلا يقبل إلا مفسرا مبين السبب).
والسبب في ذلك أن أسباب التعديل كثيرة جدا يثقل ذكرها، فلو كان واجبا على المعدل أن يذكر السبب للزمه أن يقول كان (يفعل كذا وكذا عادا ما يجب على المعدل فعله ويترك كذا وكذا عادا ما يجب على المعدل تركه).
أما الجرح فالسبب في وجوب تفسيره أن الناس مختلفون في موجب الجرح (فيطلق أحدهم الجرح بناء على أمر اعتقده جرحا وليس بجرح في نفس الأمر).
2.وذهب فريق من العلماء إلى أن الجرح يقبل مبهما ولا يقبل التعديل إلا مفسرا.
وحجتهم في ذلك، أن الجرح اوالتعديل إنما يؤخذ من إمام عارف بأسباب الجرح والتعديل. فلا يحتاج معه إلى ذكر سبب ذلك. أما التعديل فلأن أسبابه كثيرة يكثر فيها التصنع والتظاهر، فربما سارع المعدل إلى إطلاق حكمه اغترارا بظاهر الحال.
3.ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني وآخرون إلى عدم اشتراط التفسير لا في الجرح ولا في التعديل، ومبنى حكم هؤلاء على أن المعدل والجارح بعد ثبوت عدالته وعمق ديانته فإنه إنما يخبر عن حال ذلك الراوي وقبول خبر العدل متفق عليه.
4.وذهب آخرون إلى عدم قبولهما إلا مفسرين، والسبب في ذلك هو اختلاف الناس في موجبات الجرح وموجبات التعديل. فمن اختلافهم في موجبات الجرح:
ما أخرجه الخطيب عن أبي جعفر المدائني قال: (قيل لشعبة لم تركت حديث فلان قال: رأيته يركض على برذون فتركت حديثه)، فجرحه شعبة بما هو ليس بجرح.
ومثال اختلافهم في موجبات التعديل:
ما أخرجه الفسوي يعقوب بن سفيان قال: (سمعت إنسانا يقول لأحمد بن يونس (عبد الله العمري ضعيف) قال: إنما يضعفه رافضي مبغض لآبائه لو رأيت لحيته وخضابه وهيئته لعرفت أنه ثقة)، فعدله أحمد بن يونس بالنظر إلى لحيته وخضابه وهيئته وهو ما لا يعدل به العلماء.
5.ذهب ابن عبد البر إلى عدم قبول الجرح في حق من ثبتت عدالته-على طريقته في ثبوت العدالة وهي رواية أهل العلم عنه وحملهم حديثه-حتى يثبت ذلك عليه بأمر لا يجهل أن يكون جرحه، حيث قال: (فأما قولهم فلان كذاب فليس ذلك مما يثبت به جرح حتى يتبين ما قاله .. قال أبو عمر (عن نفسه) جماعة الفقهاء وأئمة الحديث الذين لهم بصر بالفقه والنظر هذا قولهم… وأنه لا يقبل من ابن معين ولا من غيره فيمن اشتهر بالعلم وعرف به وصحت عدالته وفهمه ألا أن يتبين الوجه الذي جرحه به على حسب ما يجوز من تجريح العدل المبرز العدالة في الشهادات، وهذا الذي لا يصح أن يعتقد غيره ولا يحل أن يلتفت إلى ما خالفه.
¥