وقال السيوطي: (والصحيح أن الجرح ثبوالتعديل يثبتان بواحد، وقيل لابد من اثنين).
وعلى هذا الخلاف فإن من رأى أن الجرح لا يثبت إلا باثنين فإنه لا يكون مجروحا عنده بجرح واحد من أهل الجرح والتعديل. لأنه ليس بجرح معتمد عنده. وكذلك لا يكون معدلا عند هؤلاء من قال بتعديله واحد من أئمة الجرح والتعديل. وكل هذا مرده إلى الحيطة والحذر الشديد في رواية الأخبار لأنها صنو القرآن وبيانه.
المبحث الثالث
ضوابط الترجيح بين الجرح والتعديل
عند التعارض
من المسائل التي شغلت بال المشتغلين بالحديث ومصطلحه تنازع الجارحين والمعدلين في الراوي الواحد. فيجتمع فيه جرح الجارحين وتعديل المعدلين، وقد تكلم علماؤنا في مثل هذا فقالوا: (إذا اجتمع في شخص جرح وتعديل، فالجرح مقدم، لأن المعدل يخبر عما ظهر من حاله، والجارح يخبر عن باطن خفي على المعدل).
لكن الأمر لا يستتب بهذه السهولة لأنا لو أسقطنا كل من اجتمع فيه جرح وتعديل لما بقي من يحتج بحديثه إذ ما من راو إلا وتكلم فيه بعض من تكلم بحق أو بغير حق. لذا فإن أئمة الحديث وضعوا منهجا للترجيح بين الروايات المتعارضة في الرجال. ووضعوا شروطا وتفاصيل توضح الإجمال الذي ذكروه من تقديم الجرح على التعديل.
وفي مبحثنا هذا سنحاول إن شاء الله أن نجمع كل ما أمكننا من وسائل الترجيح بين الجرح والتعديل إذا اجتمعا في راو واحد. لكي نكون على بينة من عمق وأصالة هذا المنهج الإسلامي الرفيع في الجرح والتعديل وسنضرب لكل وسيلة بمثل يوضح ما نرمي إليه ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
الضابط الأول: اعتبار منهج ذلك الإمام إلى غيره من الأئمة.
ونعني بهذا أن الأئمة في الجرح والتعديل ليسوا جميعا على وتيرة واحدة في جرحهم وتعديلهم بل فيهم المتشددون والمتساهلون والمقتصدون. فإذا ما اجتمع في راو من رواة الحديث جرح وتعديل فإن الأمانة والعدل يحتمان علينا أن ننظر هل وقع التجريح من متشدد أم من متساهل أم من مقتصد؟ فإذا وثق المتشدد فإن لتوثيقه قوة باعتبار منهج التشدد الذي كان عليه إمام الجرح والتعديل.
وإذا جرح المعروف بالتساهل فإن جرحه يكون شديدا وهكذا. والعكس صحيح.
وقد قسم الذهبي المتكلمين في الرجال إلى ثلاثة أقسام:
الأول: قسم متنعت في التوثيق متثبت في التعديل يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث فهذا إذا وثق شخصا فعض على قوله بنواجذك وتمسك بتوثيقه، وإذا ضعف رجلا فأنظر هل وافقه غيره على تضعيفه فإن وافقه ولم يوثق ذلك الرجل أحد من الحذاق فهو ضعيف، وإن وثقه أحد فهذا هو الذي قالوا لا يقبل الجرح إلا مفسرا، يعني لا يكفي فيه قول ابن معين مثلا هو ضعيف ولم يبين سبب ضعفه، ثم يحكي البخاري وغيره توثيقه، ومن هذه الطبقة (أبو حاتم، وابن ابي حاتم، والنسائي، وشعبة، وابن القطان، وابن معين).
الثاني: قسم متسمح: ويرجع تساهله إلى مذهبه في الجرح، واعتبار بعض الأوصاف على خلاف غيره، أو عدم اعتباره كتعديل المستور ونحوه، ومن هذه الطبقة (الترمذي، والبغوي، والصفار، والأصم وغيرهم من المشهورين).
الثالث: قسم معتدل: يتحرى ولا يتشدد وهو واسع التحري ومن هذا القسم (أحمد بن حنبل والدارقطني).
وقد تكلم اللكنوي في الأمور التي تمنع من قبول جرح الجارحين فقال: (ومنها أن يكون الجارح من المتعنتين المتشددين فإن هناك جمعا من أئمة الجرح والتعديل لهم تشدد في هذا الباب، فيجرحون الراوي في أدنى جرح ويطلقون عليه ما لا ينبغي إطلاقه عند أولي الألباب فمثل هذا الجارح تعديله معتبر وتجريحه لا يعتبر إلا إذا وافقه غيره ممن ينصف ويعتبر).
قال الذهبي وهو يتحدث عن أبي حاتم وهو من المتشددين: (إذا وثق أبو حاتم رجلا فتمسك بقوله فإنه لا يوثق إلا رجلا صحيح الحديث، وإذا لين رجلا أو قال فيه لا يحتج به فتوقف حتى ترى ما قال غيره فيه فإن وثقه أحد فلا تبن على تجريح أبي حاتم فإنه متعنت في الرجال).
ومن أمثلة ذلك ما جاء في ترجمة عباد بن عباد المهلبي قال فيه الذهبي: (وثقوه وحديثه في الكتب وقال أبو حاتم لا يحتج به قلت أبو حاتم متعنت في الرجل).
¥