ومن أمثلة ما وقع من التعارض في الراوي الواحد وكان منشؤه تعنت الجارحين أيضا ما أخرجه الذهبي في ميزانه في ترجمة (سويد بن عمرو الكلبي) بعد ما نقل توثيقه عن ابن معين وغيره فقال: (أما ابن حبان فأسرف واجترأ فقال كان يقلب الأسانيد ويضع على الأسانيد الصحيحة المتون الواهية).
فالذهبي هنا لم ينظر إلى تجريح ابن حبان له ولم يعمل القاعدة التي تقول أن الجرح مقدم على التعديل عند التعارض. بل قدم التعديل على الجرح لما علم من تشدد ابن حبان في الترجيح.
وقال الذهبي في ترجمة أفلح بن سعيد القبائي: (أخرج له مسلم والنسائي عن محمد بن كعب، صدوق، بالغ ابن حبان في الحط عليه).
وكذلك فعل ابن حجر. ففي ترجمة إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي فبعد أن نقل أقوال المعدلين فيه قال: (بالغ النسائي في الحط عليه إلى أن يؤدي إلى تركه).
مع أن حديث إسماعيل هذا موجود في البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجة.
وكان المجرحون أنفسهم يعلمون هذا التفاوت بينهم في الشدة والتساهل فهذا النسائي يتكلم عن منهجه في قبول الرجال وردهم.
(لا يترك الرجل عندي حتى يجتمع الجميع على تركة فأما إذا وثقه ابن مهدي وضعفه يحيى القطان فلا يترك لما عرف من تشديد يحيى أو من هو مثله في النقل).
وكذلك الحال مع المتساهلين، فإذا جاء التوثيق منهم فإنه ينظر هل وافقهم أحد من الأئمة الآخرين أم لا؟ فإن كانوا مع الغالبية أخذ برأيهم وأن انفردوا بالتوثيق رد عليهم توثيقهم.
فمن أمثلة المتساهلين في التوثيق ابن حبان في توثيقة للمجاهيل على قاعدته في أن (العدل هو من لم يعرف فيه الجرح) على الرغم من تشدده في الجرح والعجلي في تساهله مع الضعفاء.
وفي مقدمة كتاب معرفة الثقات للعجلي عقد محقق الكتاب عبد العليم السبتوني موازنة بين توثيق العجلي وتوثيق ابن حبان فقال: (تبين لي بعد دراسة كثير من الرواة إن الإمام العجلي كثيرا ما يتفق مع ابن حبان في توثيق أناس ذكرهم أبو حاتم وغيره في المجاهيل أو سكتوا عليهم ويجزم العجلي بتوثيقهم ولكنه يختلف عن ابن حبان في أن ابن حبان يتشدد أو يتعنت في الجرح بخلاف العجلي فإنه يتسامح مع الضعفاء أيضا فيعطيهم مرتبة أعلى مما هم فيه من النقاد الآخرين).
وأما المعدلون المنصفون فإنه يعتمد على توثيقهم أو تجريحهم في الحكم على الرواة ما لم يعارض ذلك الحكم بجرح مفسر خال من التعنت والتشدد فإنه حينئذ يقدم على التوثيق.
الضابط الثاني: اعتبار اختلاف العقيدة والمذهب بين الجارح والمجروح:
ومن الأمور المهمة التي يجب مراعاتها عند الموازنة بين الجرح والتعديل عند التعارض مسألة اختلاف العقيدة والمذهب بين الجارح والمجروح. إذ كثيرا ما ينطلق الناس في توثيقهم وتجريحهم من عقائدهم ومذاهبهم فلا يرون صوابا ولا عدالة فيمن كان على عقيدة أو مذهب يخالف ما هم عليه.
وهذا أمر في غاية الأهمية والخطورة لأن الحكم يجب أن يتجه إلى أمرين لا ثالث لهما-العدالة والضبط-وقد سبق الكلام عليهما. فمن كان عدلا سالما من أسباب الفسق وخوارم المروءة ضابطا لما يروي عالما بما يحيل معاني الألفاظ يجب أن يقبل حديثه بقطع النظر عن مذهبه ومعتقده في الأمور الفرعية التي لا تخرج من الملة.
وكذلك الحال فيمن كان معه على توافق تام في العقيدة أو المذهب فإنه قد يتساهل في تعديله ويرفعه فوق ما يستحق بسبب هذا التوافق، قال الذهبي: (قد يكون نفس الإمام فيما وافق مذهبه أو في حال شيخه ألطف منه فيما كان بخلاف ذلك).
قال الحافظ ابن حجر: (ومما ينبغي أن يتوقف في قبول قوله في الجرح من كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها الاختلاف في الاعتقاد، فإن الحاذق إذا تأمل ثلب أبي اسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأى العجب وذلك لشدة انحرافه في النصب وشهرة أهلها في التشبع، فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلق وعبارة طلقة، حتى أخذ يلين مثل الأعمش، وأبي نعيم وعبيد الله بن موسى، وأساطين الحديث وأركان الرواية.
فهذا إذا عارضه مثله أو أكبر منه فوثق رجلا ضعفه قبل التوثيق، ويلتحق به عبد الرحمن بن يوسف بن خراش الحافظ المحدث، فإنه من غلاة الشيعة بل نسب إلى الرفض فيتأنى في جرحه لأهل الشام للعداوة البينة في الاعتقاد).
¥