ومن هذا القبيل تحامل أهل الحديث على أهل الرأي، فإنه يجب أن يتوقف فيه ويتأنى في قبوله.
قال الحافظ ابن حجر في ترجمة نعيم بن حماد: (إنه كان شديدا على أهل الرأي). وقال الذهبي في ترجمة عبد المؤمن بن خلف (أبو يعلى النسفي) (… وكان من علماء الظاهرية أخذ الكتب من محمد بن داود الظاهري وكان شديد الحب للآثار محطا على أهل القياس). وكذلك مع المحدثين والأشاعرة فاستمع إلى تاج الدين السبكي وهو يتحدث عن الذهبي بقوله: هذا شيخنا الذهبي له علم وديانة وعنده على أهل السنة تحمل مفرط فلا يجوز أن يعتمد عليه وهو شيخنا ومعلمنا غير أن الحق أحق بالاتباع… فإن غالبهم أشاعرة، وهو إذا وقع بالأشعري لا يبقي ولا يذر.
ويقول الإمام السبكي في موضوع آخر: (ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح حال العقائد واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح، فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة فجرحه لذلك، وإليه أشار الرافعي بقوله: (وينبغي أن يكون المزكون براء من الشحناء والعصبية في المذهب خوفا من أن يحملهم ذلك إلى جرح عدل، أو تزكية فاسق، وقد وقع الكثير من الأئمة جرحوا بناء على معتقدهم، وهم المخطئون والمجروح مصيب).
فمن الأحكام التي تأثرت بعقيدة مصدرها (قول بعضهم في البخاري، تركه أبو زرعة وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ*).
ومن هذه الأحكام أيضا قول الطوسي فيما نقله عنه الغريفي بقوله: (ومما يدل أيضا على صحة ما ذهبنا إليه أنا وجدنا الطائفة ميزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار ووثقت الثقات منهم وضعفت الضعفاء وفرقوا بين من يعتمد عليه في حديثه وروايته ومن لا يعتمد على خبره، ومدحوا الممدوح منهم وذموا المذموم وقالوا: فلان متهم في حديثه، وفلان كذاب وفلان مخلط وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد وفلان واقفي، وفلان فطمي وغير ذلك من الطعون التي ذكروها).
فاختلاف العقيدة أصبح مطعنا عند بعض العلماء الذين لم يستطيعوا أن ينجردوا عن أهوائهم وعند بعض الفرق كذلك.
لأجل هذا كله اشترط كثير من العلماء لقبول الجرح أن يكون مفسرا أي أن يقدم الجارح دليلا على جرحه لذلك المجروح ليعلم الباعث الحقيقي لذلك الجرح.
يقول الشافعي: (ولا نقبل الجرح من الجارح إلا بتفسير ما يجرح به الجارح المجروح فإن الناس قد يجرحون بالاختلاف والأهواء ويكفر بعضهم بعضا ويضلل بعضهم بعضا، ويجرحون بالتأويل، فلا يقبل الجرح إلا بنص ما يرى هو مثله بجرح سواء أكان الجارح فقيها أو غير فقيه لما وصفت من التأويل).
الضابط الثالث: اعتبار المنافسة بين الأقران:
إذ كثيرا ما تقع مشادات كلامية بين الأقران والمتعاصرين، وهم على درجة من العدالة والوثاقة عندها لا يصلح أن يكون مثل هذا الكلام أساسا للطعن فيهم.
يقول الإمام الذهبي فيما نقله عنه القاسمي: (وكلام الأقران في بعض ينبغي أن يطوى ولا يروى، ويطرح ولا يجعل طعنا، ويعامل الرجل بالعدل والقسط).
وقال ايضا: (كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به لاسيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد وما ينجو منه إلا من عصمه الله).
قال ابن حجر: (كثيرا ما يقع بين العصريين الاختلاف والتباين لهذا وغيره وكل هذا ينبغي أن يتأنى فيه ويتأمل).
ومن أمثلة هذه الطعون ما أورده الذهبي في ترجمته لأبي نعيم الأصبهاني بقوله: (ولأبي عبد الله بن مندة حط على أبي نعيم من قبل المذهب كما للآخر حط عليه فلا ينبغي أن يلتفت إلى ذلك الواقع الذي بينهما).
وفي طبقات الحفاظ للسيوطي: (قال الذهبي لا يقبل قوله (أي قول أبي نعيم) فيه (أي في أبي منده) كما لا يقبل قول أبي منده في أبي نعيم للعداوة المشهورة بينهما).
الضابط الرابع: اعتبار ما هو شائع ومشهور عن المعدل أو المجروح:
ومن المسائل التي يجب أخذها بنظر الاعتبار الشهرة والذيوع جرحا أو تعديلا. فلا يلتفت إلى جرح من استفاضت عدالته واستطالت عدالته لأن الجرح في مثل هذا شذوذ عن المحفوظ، والشاذ لا يقوى على رد المحفوظ مطلقا.
(ولذلك لا يلتفت إلى كلام ابن أبي ذئب في الإمام مالك، ولا إلى كلام النسائي في أحمد بن صالح المصري، لأن هؤلاء أئمة مشهورون صار الجارح لهم كالآتي بخبر غريب لو صح لتوفرت الدواعي على نقله).
وقد قال ابن الصلاح عن أحمد بن صالح: (حافظ إمام ثقة لا يعلق به جرح أخرج عنه البخاري في صحيحه).
¥