يقول الإمام السبكي: (ومما ينبغي أن يتفقد أيضا حاله في العلم بالأحكام الشرعية فرب جاهل ظن الحلال حراما فجرح به، ومن هنا أوجب العلماء التفسير لتوضيح الحال، وقال الشافعي رضي الله عنه حضرت بمصر رجلا مزكيا يجرح رجلا، فسئل عن سببه وألح عليه، فقال رأيته يبول قائما، فقيل وما في ذلك؟ فقال: يرد الريح من رشاشه على يده وثيابه فيصلي فيه، فقيل هل رأيته قد أصاب الرشاش وصلى قبل أن يغسل ما أصابه؟ قال: لا ولكن أراه سيفعل… وحكى أن رجلا جرح رجلا وقال: إنه طين سطحه بطين أخرج من حوض السبيل).
وفي ترجمة حبيب بن أبي ثابت يقول الذهبي: (وثقة ابن معين وجماعة واصح به أفراد الصحاح بلا تردد وغاية ما قال فيه ابن عون كان أعور وهذا وصف لا جرح).
ومثال ما ذكره تعديلا لمن ذكر في حقه وهو ليس من التعديل في شيء ما ذكره ابن حجر في ترجمته لعبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب حيث قال: (قال البخاري في التأريخ كان يحيى بن سعيد يضعفه وقال أبو أحمد الحاكم ليس بالقوي عنده وقال يعقوب بن سفيان عن أحمد بن يونس: لو رأيت هيئته لعرفت أنه ثقة). وقد ذكر السيوطي هذه الرواية فقال: (كما قد يجرح الجارح بما لا يقدح كذلك بوثق المعدل بما لا يقتضي العدالة كما روى يعقوب الغسوي في تأريخه قال: سمعت إنسانا يقول لأحمد بن يونس: عبد الله العمري ضعيف فقال: إنما يضعفه رافضي مبغض لآبائه لو رأيت لحيته وهيئته لعرفت أنه ثقة فاستدل على ثقته بما ليس بحجة لأن حسن الهيئة يشترك فيه العدل وغيره).
الضابط التاسع: اعتبار الإطلاق والتقييد عند الجرح أو التعديل:
ومن الضوابط التي يجب مراعاتها في موضوع التعارض النظر في أقوال الأئمة في الجرح أو التعديل هل ما أطلقوه من جرح أو تعديل حكم مطلق في حق من أطلق عليه ذلك أم أن الحكم-مقيد-وليس على إطلاقه.
وهذا أمر في غاية الأهمية إذ إن كثيرا من الرواة ثقات ضابطون إذا حدثوا من كتاب وإذا حدثوا من حفظهم فلا وثاقة فيهم، ومنهم من هو ثقة في بعض الرواة دون غيرهم وهذا لا يتم الوصول إليه والوقوف عليه إلا بالاستقراء العميق والتتبع المغني لأقوال الجارحين والمعدلين فيه ومتابعة مرويات ذلك الراوي. والتقييد يكون على أنواع عديدة:
فمن ذلك ما ذكره الذهبي والمزي في ترجمتهما لحفص بن غياث النخعي قاضي الكوفة فقد (كان شيخا عفيفا مسلما وقال يعقوب بن أبي شيبة ثقة إذا حدث من كتابه ويتقى بعض حفظه).
وهناك نوع آخر من التقييد وهو كون من روى عنه ثقة. فقد ذكر ابن حبان في ترجمته لعمرو بن عمر بن عبد الأمحوسي أنه (من أهل الشام ثبت إذا كان فوقه ثقة ودونه ثقة).
أو قد يكون التقييد في الرواية عن أشخاص بأعينهم فقد جاء في ترجمة محمد بن خازم أبو معاوية الضرير الحافظ أنه روى (عن هشام والأعمش وعنه أحمد واسحق وعلي بن معين ثبت في الأعمش).
وقد يكون التقييد تعديلا إلا في راو واحد. فهذا يعلى بن عبيد الطنافسي روى عن يحيى بن سعيد والأعمش وروى عنه ابن نمير والصاغاني ثقة عابد قال ابن معين ثقة إلا في سفيان).
وكذلك داود بن الحصين الأموي ثقة إلا في عكرمة.
وقد يكون التقييد في رواية الراوي عن أهل بلد دون غيرهم وسبب ذلك أنه ربما حدث عن أهل بلد لم تكن كتبه معه فأختلط ثم حدث عن أهل بلد آخرين من كتبه فضبط أو لكونه سمع في مكان ما شيخا فلم يحفظ عنه وسمع منه في موضع آخر فحفظ.
- ومن أمثلة ذلك معمر بن راشد الأزدي حديثه في البصرة فيه اضطراب كثير لأن كتبه لم تكن معه وحديثه في اليمن جيد.
- ومنه قول يعقوب بن شيبة (سمعت علي بن المديني يضعف ما حدث به عبد الرحمن بن أبي الزناد بالعراق ويصحح ما حدث به في المدينة).
وكذلك قد يكون التقييد في الطريق الذي وصلت منه أحاديث ذلك الراوي. فربما حدث الراوي في بلد فحفظوا عنه وأدوا فأحسنوا وحدث في أقليم آخر فلم يحفظوا فأساؤا الرواية عنه.
ومن أمثلته:
- زهير بن محمد الخراساني يروي عنه أهل العراق أحاديث مستقيمة ويروي عنه أهل الشام أحاديث منكرة.
وكذلك محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، سماع الحجازيين منه صحيح وفي أحاديث العراقيين عنه وهم كثير.
فكل هذه النصوص التي ذكرناها تكون مانعة من إطلاق الحكم على الراوي وتوجب على الراوي الاقتصار على ما جرح أو عدل به الرواة دون توسعه ولا تضييق.
¥