إلا أن يكون مراد الإمام الذهبي: أن يكون هذا الحديث الذي يرويه سماك عن عكرمة عن ابن عباس، من رواية الثوري أو شعبة عن سماك، فإن العلماء ذكروا: "إن الثوري وشعبة، إذا رويا عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس فهذا صحيح، وأما إذا روى غيرهم عن سماك فالرواية مضطربة". فيكون على ذلك كلام المؤلف: إما أن يقيد، يقال: "رواية سماك عن عكرمة عن ابن عباس، فيما رواه عن سماك الثوري وشعبة" وإما أن يقال: "إدخال هذه السلسلة في هذه المراتب، مخالفة من الذهبي لما اعتمده الحفاظ".
وهذه المرتبة، لو لاحظنا الأوصاف التي تميز بها أهلها -لوجدنا أن الوصف الأول: أنهم مخرج لهم في الصحيح، سواء في الصحيحين، أو في صحيح البخاري، أو في صحيح مسلم، فهم من رجال الصحيح.
الثاني: أن كل سلسلة من هذه السلاسل المذكورة، قد قدح في راو منها، لكن هذا القادح، يعني ليس مؤثرا يضعف الراوي، وإنما يحط من رتبته نوعا ما، وهذه -أيضا- فيها وصف سلبي: وهو أنه ليس في هذه السلاسل ما وُصف بأنه أصح الأسانيد، فصارت هذه المرتبة تمتاز أو تتصف بثلاثة أوصاف:
الوصف الأول: أن أهل هذه السلاسل لم توصف منها سلسلة بأنها أصح الأسانيد. والثانية: أن أهلها مخرج لهم في الصحيح.
والثالثة: أن كل سلسلة مشتملة على رجل ممن قد تكلم فيه، أو قُدح فيه، لكن هذا القدح لم يكن مؤثرا تأثيرا بالغا يضعف الرجل، وإنما أثر عليه بتنزيله من المرتبة العليا من مراتب الصحيح، إلى المرتبة الدنيا، والمؤلف في آخر كلامه قال: "وأمثال هذا: مما انفرد به في البخاري ومسلم".
وهذا الكلام إما أن يقال: "إن المراد: مما انفرد به في البخاري ومسلم على سبيل الاجتماع في الأسانيد". بمعنى أنه: لو رأينا رواية الليث عن أبي الزبير عن جابر، أو الزهير عن أبي الزبير عن جابر، وتتبعنا هؤلاء الرجال -لوجدناهم كلهم مخرج لهم في الصحيحين: الليث وزهير احتجاجا في الصحيحين، وأبو الزبير متابعة، وفي مسلم احتجاجا، لكن الشاهد من هذا: أنهم مخرج لهم في الصحيحين، لكن لما ترجع إلى صحيح البخاري -لا تجد أن البخاري يروي حديثا عن الليث عن أبي الزبير، ولا يروي حديثا عن زهير عن أبي الزبير، لا تجد هذا نهائيا، يعني لا تجد في صحيح البخاري الجمع بين هذين الرجلين، بينما إذا فتشت في صحيح مسلم وجدت أنه له روايات كثيرة عن الليث، عن أبي الزبير، الزهير عن الزبير، أما في البخاري فلا تجد، تجد رواية الليث عن شيخ آخر غير أبي الزبير، تجد رواية زهير عن شيخ آخر غير أبي الزبير.
إذن هذه الرواية لا يصح أن توصف بأنها جاءت على سبيل الاجتماع في الصحيحين، هذه السلسلة إنما جاء التخريج للرواة فيها على سبيل الانفراد، يعني: خرج الجامع أنه خرج له في الصحيح، لكن هل خرج لليث عن أبي الزبير؟ أو الزهير عن أبي الزبير في البخاري؟ هذا لم يحصل وإنما حصل في صحيح مسلم.
عن الليث والزهير عن أبي الزبير عن جابر أو سماك عن عكرمة عن ابن عباس.
وهذا سماك سبق أنه خالف هنا إما أن يقيد وإما أن يلغى نعم.
والثاني: "أو أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء ". هذا أبو بكر بن عياش، لم يخرج له إلا في البخاري، وأبو إسحاق السبيعي خرج له في الصحيحين، إذن يكون هذه السلسلة مما انفرد به البخاري، أو مما اجتمع عليها الشيخان، هذه السلسلة يكون قد انفرد بها البخاري، فكان الاعتبار هنا راجعا إلى الاجتماع لا إلى الانفراد؛ لأنه لو رجعنا إلى الانفراد لوجدنا أن أبا إسحاق يروى عنه في الصحيحين، لكن مراد المؤلف في هذا الاجتماع، فهذه السلسلة انفرد بها الإمام البخاري؛ لأنه ليس هناك رواية لأبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق في صحيح مسلم، إلا في المقدمة، وهذه لا اعتبار لها، لكن رواية أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق السبيعي موجودة في صحيح البخاري فكان البخاري منفردا بهذه الترجمة على سبيل الاجتماع.
أو العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ".
العلاء بن بن عبد الرحمن هذا حسن الحديث، وأبوه كذلك، وهو هذه السلسة ممن انفرد الإمام مسلم بإخراج حديث أهلها، يروي كثيرا من هذه الأحاديث، لكن الذي ينبغي التنبه له: أن الإمام مسلم اختار من هذه النسخة، ما تيقن -رحمه الله- أنه ليس فيه علة، فأخرج من هذه السلسلة على سبيل الانتقاء؛ لأن بعض الناس إذا رأى حديثا بهذه السلسة صححه على شرط مسلم، وهذا غلط؛ لأن هناك أحاديث تركها مسلم عمدا لكونها معلولة، وهي تروى بهذا الإسناد، والعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، هذا بعض أهل العلم يصحح هذه الرواية، وبعضهم يحسنها، وبعضهم يضعفها، لكن الأشهر في هذا كله: أن هذه السلسلة دائرة بين الصحة والحسن؛ ولهذا خرج الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- لهذه النسخة أحاديث كثيرة في صحيحه، ولو نظرنا إلى هذه السلسلة لوجدنا أنه قد تكلم في أهلها، وجدنا أن رجالها مخرج لهم في الصحيح وصحيح الإمام مسلم، ثم وجدنا أن هذه السلسلة لم يوصف شيء منها بأنه أصح الأسانيد.
فالشاهد من هذا كله، أن عبارة المؤلف: "انفرد بإخراجه البخاري أو مسلم" هذا فيه تفضيل لما خرج في الصحيحين، وجعله مما خرج في صحيح مسلم، أو في صحيح البخاري على سبيل الانفراد، وجعله مقدما على غيره من الصحيح، وهذا معروف في كلام أهل الاصطلاح، وبهذا يتبين أن الحديث الصحيح على مراتب، وأن كوننا نفضل مرتبة على مرتبة، لا يعني تضعيف المرتبة الأخرى، وإنما يستفاد منها في الترجيح بين الروايات، وهذا كما يفضل أهل العلم بعض الرواة على بعض، فتفضيلهم للأوثق على الثقة لا يقتضي تضعيف الثقة، وإنما يقتضي التفاضل بينهما حين الاختلاف. نعم.
¥