ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[20 - 08 - 07, 02:09 ص]ـ
فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
يستجيب ترتيب الكلمات في قول صاحب الجنتين لاعتبارات بيانية في غاية الأهمية .. كما أنها تفسح المجال لافتراض نسيج كلامي مكون من ثلاث خطابات متوالية:
-خطاب أناني/ إبليسي.
-خطاب مادي/ تكاثري.
-خطاب حربي/ إرهابي.
1 - "أنا"
استهلال الخطاب بالضمير المنفصل الدال عن الذات "أَنَا"وإشفاعه بصيغة التفضيل" أكثر" يلحق خطاب صاحب الجنتين بالخطاب الإبليسي/الفرعوني:
أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ. الأعراف12
{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} الزخرف52
إنها الذات البارزة والمتصدرة عند الغني في مقابل الذات عند الصاحب الفقير وهي الخفية التي لا يكاد يشعر بها:
لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)
فالقاريء غير اليقظ قد لا يشعر بوجود ضمير المتكلم المفرد المنفصل" أنا"في خطاب الرجل الفقير:
قال الكسائي: فيه تقديم وتأخير، تقديره: "لكن الله هو ربي أنا"، فحذفت الهمزة من «أنا» طلباً للخفة لكثرة الاستعمال وأدغمت إحدى النونين في الأخرى وحذفت ألف «أنا» في الوصل وأثبتت في الوقف.
وقال النحاس: مذهب الكسائي والفرّاء والمازِنِيّ أن الأصل "لكن أنا" فألقيت حركة الهمزة على نون لكن وحذفت الهمزة وأدغمت النون في النون فالوقف عليها "لكنا" وهي ألف أنا لبيان الحركة.
وقال أبو عبيد: الأصل لكن أنا، فحذفت الألف فالتقت نونان فجاء بالتشديد لذلك.
(انظر هذه الأقوال في تفسير القرطبي)
2 - "أكثر منك مالا"
تفصح عن هذه العقلية التكاثرية التي لا تبصر من الوجود غير مقولة "الكم".فما أشبه خطاب العصر بخطاب صاحب الجنتين! فإنك لا ترى القوم يصنفون ويرتبون إلا على سلم العدد وسواء في ذلك تصنيف الأفراد وتصنيف الأمم .. فمقياس التقدم والتطور-زعموا-هو ما يحسب ماديا بمقدار الدخل الفردي والقومي والميزان التجاري وقيم الاستهلاك وحجم الاحتياط ..
ولعل أخطر ما يلازم هذه العقلية التكاثرية هو سد الطرق على كل الاعتبارات الأخرى حتى يقع الهلاك الحتمي، مصداقا لقوله تعالى:
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}
3 - وَأَعَزُّ نَفَرًا
استقراء آيات التنزيل التي تعدد نعم الله على الخلق يكشف عن قاعدة في ترتيب النعم حيث يذكر المال أولا ثم البنين بعده:
- {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} الإسراء6
- {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} الكهف46
- {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} المؤمنون
- {أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} الشعراء
- {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} القلم
- {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} نوح
- {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً، وَبَنِينَ شُهُوداً}. المدثر.
والسر في هذا يرجع إلى أن كمال النعمة هو في هذا الترتيب بالضبط: مال ثم بنون. فالبنون قبل المال-أو بدون مال- هو مصدر قلق وليس نعمة،كما أن المال بدون بنين هو أدعى للحسرة والأسف.
(ملحوظة: في آية آل عمران وقع ذكر البنين قبل المال لأن السياق ينص على الشهوة وليس النعمة لذلك جاء الترتيب فيها وفق قوة الشهوة {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} آل عمران14)
"أعز نفرا" جاءت في المرتبة المحفوظة للبنين لذا ذكر جل المفسرين أنها معادلة للبنين على سبيل التضمن كما في قولي ابن كثير والقرطبي ... أو على سبيل المطابقة كما في قول ابن عاشور:
-قال ابن كثير" {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا} أي: أكثر خدمًا وحشمًا وولدًا.
-قال القرطبي: النفر: الرهط وهو ما دون العشرة. وأراد هاهنا الأتباع والخدم والولد.
-قال ابن عاشور: والنفَر: عَشيرة الرجل الذين ينفرون معه. وأراد بهم هنا ولده، كما دل عليه مقابلته في جواب صاحبه بقوله: {إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً} [الكهف: 40].
هذا، وقد عدل عن ذكر البنين إلى تعبير" أعز نفرا" لإكساب الخطاب طابعا تهديديا:"النفر "و"النفير" تنتمي إلى الحقل الدلالي الحربي .. فصاحب الجنتين لا يكتفي بإظهار نفسه في أبهة الغني بل هو قوي أيضا ذا سلطة ... فهو مالك للثمر وقادر على حماية ملكيته بما أوتي من ولد ينفرون معه .. وهو في حواره مع صاحبه يقوم بمعرض اقتصادي واستعراض عسكري معا. .!!
¥