وقال القاضي بكر بن العلاء المالكي: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقله واضطراب رواياته وانقطاع إسناده واختلاف كلماته، فقائل يقول: إنه في الصلاة وآخر يقول: قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة وآخر يقول: قالها وقد أصابته سنة وآخر يقول: بل حدث نفسه فسها وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه وإن النبي لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتك؟ وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبي قرأها فلما بلغ النبي ذلك قال: والله ما هكذا أنزلت.
إلى غير ذلك من اختلاف الرواة ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب - الشك في الحديث - أن النبي كان بمكة وذكر القصة
وقال أبو بكر البزار " هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا ولم يسنده عن شبعة إلا أمية بن خالد وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، وإنما يُعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس "
فقد بين البزار رحمه الله أنه لا يُعرف من طريق يجوز ذكره سوى حديث شعبة وفيه من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه. وأما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه كما أشار إليه البزار، والذي منه في " الصحيح " " أن النبي قرأ (النجم) وهو بمكة فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس "
وقال الحافظ ابن كثير عند تفسيره آية سورة الحج " قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ولكنها من طرق كلها مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح.
وقال الشيخ الألباني: إن كل طرقها مرسلة لا يدري من الذي حدث بها ممن يمكن أن يدرك عصر النبوة، والذي في الصحيح أن الرسول قد قرأ سورة النجم فسجد المسلمون والمشركون مع سجوده
وقال الشوكاني: ولم يصح شيء من هذا ولا يثبت بوجه من الوجوه ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه " ثم ذكر بعض الآيات الدالة على البطلان ثم قال " وقال إمام الأئمة ابن خزيمة إن هذه القصة من وضع الزنادقة "
وقال الآلّوسي في إبطال القصة "إن القول بأن هذا الخبر مما ألقاه الشيطان على بعض ألسنة الرواة ثم وفق الله تعالى جمعا من خاصته لإبطاله أهون من القول بأن حديث الغرانيق مما ألقاه الشيطان على لسان النبي ثم نسخه.
هذا توهينه من جهة النقل أما من جهة المعني:
قال القاضي عياض: لقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ويعتقد النبي أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه عليه جبريل عليه السلام وذلك كله ممتنع في حقه أو يقول ذلك النبي من قبل نفسه عمدا وذلك كفر أو سهو وهو معصوم من ذلك كله وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته من جريان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمدا ولا سهوا وأن يشتبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقي الشيطان أو يكون للشيطان عليه سبيل أو يتقول على الله لا عمدا ولا سهوا ما لم ينزل عليه وقد قال تعالى (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ)
ووجه ثان: وهو استحالة هذه القصة نظرا وعُرفا، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روي لكان بعيد الالتئام متناقض الأقسام ممتزج المدح والذم متخاذل التأليف والنظم، ولما كان النبي ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك وهذا لا يخفى على أدنى متأمل فكيف بمن رجح حلمه واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟
¥