تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثم أخذ يُبيِّن لنا الكوثر، وأوصاف كيزانه، وطيره، وأوصاف مَن سيرد عليه من المسلمين، بما جاء في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم قال - بعد هذا كله: "اعلم أن هذه الأحاديث وردت لغاية أرقى مما يراها الذين لا يفكرون، كم أُمم جاءت قبلنا وجاء فيهم مصلحون، فماذا فعلوا؟ ألقوا إليهم العلم بهيئة جميلة، وصورة مفرحة، وبهجة وجمال. ولا نزال نرى كل أمة حاضرة كفائتة. جميعهم يصيغون ما يريدون من الجمال، والحكمة، والعلم، ورقى الأُمة بهيئة تسر الجمهور".

ثم يقول: "الجاهل يسمع الدُّر والياقوت، وشراباً أحلى من العسل، فيفرح ويعبد الله ليصل إلى هذه اللَّذت التي تقر بها عينه .. والعالم ينظر فيقول: إن هذا القول وراءه حكمة ووراءه علم، لأني أرى في خلال القول عجائب. فلماذا يذكر أن الكيزان أو الأباريق أو نحو ذلك عدد نجوم السماء! وأي دخل لنجوم السماء هنا؟ ولماذا عبَّر به"؟ .. ثم يقول: "لماذا ذكر أن الذين يردون الحوض عليهم آثار الوضوء؟ ولِمَ؟ ... ولِمَ؟ .. الحق أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم يريد أمرين: أمراً واضحاً جلياً يفرح به جميع الناس، وأمراً يختص بالقُوَّاد والعظماء.

إن النبوة بأمر الله، والله جعل في أهل الأرض فلاحين لا يعرفون إلا ظواهر الزرع، وجعل أطباء يستخرجون منافع من الحب والشجر، وحكماء يستخرجون علوماً، وكُلٌ لا يعرف إلا علمه، فالطبيب يشارك الفلاح في أنه يأكل، ولكنه يمتاز عنه بإدراك المنافع الطبية. فالطبيب يشارك الفلاح في أنه يأكل، ولكنه يمتاز عنه بإدراك المنافع الطبية. هكذا حكماء الأمة الإسلامية يشاركون الجهلاء في أنهم يفهمون الحوض كما فهموه، ويردونه معهم كما يردونه، ولكن هؤلاء يمتازون بأنهم قُوَّاد الأُمة الذين يقودونها. فماذا يقولون؟ يقولون إن النبي

ـ صلى الله عليه وسلم ـ يريد معانى أرقى. إن الجنة فيها ما لا عَيْن رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر، فليس الماء الذي هو أحلى من العسل وأبيض من الثلج كل شيء هناك، ثم إن الجنة لا ظمأ فيها، وأي شيء عدد نجوم السماء؟ ولماذا اختُصَّت النجوم بالعدد والوضوء بالأثر؟ والذي نقوله: إن الحوض يُرمز به للعلم مع بقائه على ظاهره، فلا المسك الأذفر، ولا أنواع الجواهر النفسية من دُّرٍّ وياقوت، ولا حلاوة العسل الذي في ذلك الماء، ولا اتساع الحوض إلا أفانين العلم ومناظر بدائعه المختلفة المناهج، العذبة المشارب، السارة للناظرين ... "، ثم يخلص من هذا كله إلى الاستدلال على أن ما ذهب إليه من قبيل الكناية التي هي لفظ أُطلق وأُريد به لازم معناه مع جواز إرادة المعنى الأصلي، ثم يقول - بعد بيان هذه الكناية: " .. هنا يكون النصر ولا يكون إلا بعد أن يتجافى الناس عن أفعال الملحدين والكفرين، وجعل العلوم مرتبطة بالربوبية كما تشير إليه سورة الكافرون. هنا يكون نصر الله والفتح، ويدخل الناس في هذه العلوم الحقيقية أفواجاً. وعلى حكماء المسلمين الذين بعدنا متى نشروا هذه الآراء العلمية وأمثالها، ورأوا المسلمين تقدَّموا ونصروا العلم على الجهل في العالَم الإنساني، وأصبح المسلمون قائمين بما وعدهم ربهم من أنهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم رحمة للعالمين، متى رأى العلماء ذلك فيعلموا أن هذا هو النصر في زماننا، وهو الفتح، وإذن فعلى القائمين بذلك أن يحمدوا ربهم ويستغفروه" .. إلخ.

هذا هو تفسير الجواهر، وهذه نماذج منه وضعتها أمام القارئ، ليقف على مقدار تسلط هذه النزعة التفسيرية على قلم مؤلفه وقلبه.

والكتاب - كما ترى - موسوعة علمية، ضربت في كل فن من فنون العلم بسهم وافر، مما جعل هذا التفسير يُوصف بما وُصِف به تفسير الفخر الرازي، فقيل عنه: "فيه كل شيء إلا التفسير" بل هو أحق من تفسير الفخر بهذا الوصف وأولى به، وإذا دلَّ الكتاب على شيء، فهو أن المؤلف رحمه الله كان كثيراً ما يسبح في ملكوت السموات والأرض بفكره، ويطوف في نواح شتَّى من العلم بعقله وقلبه، ليُجلى للناس آيات الله في الآفاق وفى أنفسهم، لم ليُظهر لهم بعد هذا كله أن القرآن قد جاء متضمناً لكل ما جاء ويجيء به الإنسان من علوم ونظريات، ولكل ما اشتمل عليه الكون من دلائل وأحداث، تحقيقاً لقول الله تعالى في كتابه: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} .. ولكن هذا خروج بالقرآن عن قصده، وانحراف به عن

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير