هذه المسألة وقع فيها لبس ينبغي توضيحه، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فذهب جماعة منهم إلى أن المعوذتين نزلتا بسبب حادثة سَحر النبي صلى الله عليه وسلم، وممن قال بهذا القول: مقاتل بن سليمان، والفراء، وسهل التستري، وابن خالويه، وابن أبي زمنين، والواحدي، ومحمود بن حمزة الكرماني، وابن العربي، وابن الجوزي، وابن جزيء الكلبي، وأبو حيان الأندلسي، وابن ريان، والعيني، والمحلي، وابن عادل الحنبلي، والبقاعي، والإيجي، والسيوطي في الإتقان
ونسبه الخطيب الشربيني إلى ابن عباس وعائشة
ونسبه الواحدي والبغوي إلى مقاتل والكلبي
ونسبه إلى جمهور المفسرين: الواحدي، وأبو المظفر السمعاني، والعز بن عبد السلام، والرازي، ونظام الدين النيسابوري.
وممن ذكره ولم تدل عبارته على القول به: ابن عطية، والسهيلي، وابن أبي العز الهمذاني، والبيضاوي، والنسفي، والخازن.
وممن ضعَّف هذا القول: ابن عاشور.
قالَ ابْنُ عَاشُورٍ (ت: 1393هـ): (وقالَ الوَاحِدِيُّ: قالَ الْمُفَسِّرُونَ: (إنها نَزلتْ بسَبَبِ أنَّ لَبِيدَ بنَ الأَعْصَمِ سحَرَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ) وليسَ في الصِّحَاحِ أنها نَزلَتْ بهذا السَّبَبِ، وبَنَى صاحِبُ الإتقانِ عليه تَرجيحَ أنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ، وسنتكَلَّمُ على قِصَّةِ لَبيدِ بنِ الأَعْصَمِ عندَ قولِه تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}). [التحرير والتنوير: 30/ 624]
وقالَ في موضع آخر: (وقالَ في (الإتقانِ): إنَّ سببَ نُزولِها قِصَّةُ سِحْرِ لَبِيدِ بنِ الأَعْصَمِ، وأنها نَزلتْ مع (سُورةِ الفَلَقِ) وقد سَبَقَه على ذلك القُرْطُبِيُّ والواحِدِيُّ، وقد عَلِمْتَ تَزييفَه في سُورَةِ الفَلَقِ) [التحرير والتنوير: 30/ 631]
قلت: عمدة الكلام في هذه المسألة على صحة النقل، ولتحقيق القول في هذه المسألة ندرس الأحاديث الواردة في هذا الباب وما فيها من الاختلاف والروايات التي ورد فيها ذكر نزول المعوذتين جراء تلك الحادثة، وهي ست روايات لا أعلم غيرها بعد طول بحث واستقصاء
الأولى: رواية أبي عبيد الله المخزومي عن سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها في حادثة سحر النبي صلى الله عليه وسلم.
الثانية: رواية أحمد بن يونس عن أبي معاوية عن الأعمش عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم.
الثالثة: رواية محمد بن عبيد الله العرزمي عن أبي بكر بن محمد عن عمرة عن عائشة.
الرابعة: رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
الخامسة: رواية أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس بن مالك.
السادسة: رواية عكرمة عن ابن عباس.
فلندرسها رواية رواية بشيء من الاقتضاب، حتى تتبين هذه المسألة بياناً جلياً بإذن الله.
الحديث الأول: حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها
حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة
قالَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ البُخَارِيُّ (ت:256هـ): (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا قالَتْ سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّىْءَ وَمَا فَعَلَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهْوَ عِنْدِي لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا، ثُمَّ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ، أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِى فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِى رَجُلاَنِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِى، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَىَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ: مَطْبُوبٌ.
قَالَ مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ. قَالَ: فِي أَيِّ شَىْءٍ؟ قَالَ: فِى مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ.
قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ».
فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَجَاءَ فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ».
¥