تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وهذا المذهب هو الذي يطمئن إله القلب، ويهدي إليه النظر وتدل عليه البراهين وإليك بيانها:

أولا: أن هذه المصاحف العثمانية قد نسخت من الصحف التي أمر الصديق بجمعها، وقد أجمع العلماء على أن هذه الصحف سجل فيها ما تواتر ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحرف السبعة، واستقر في العرضة الأخيرة ولم تنسخ تلاوته، فصحف أبي بكر أصلاً ومصدر مصحف عثمان رضي الله عنهما.

ثانيا: لم يرو في خبر صحيح ولا ضعيف أن عثمان أمر الكتاب أن يقتصروا على حرف واحد ويلغوا الستة الباقية.

ثالثا: لا يصدق مؤمن يعرف للصحابة قدرهم في قوة دينهم وتقديسهم كتاب ربهم – وكانوا وقتئذ اثنى عشر ألفاً أو يزيدون – يقرون عثمان على إلغاء ما تواترت قرآنيته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما كانت البواعث على ذلك.

رابعا: لو كان صحيحاُ ما يدعيه أصحاب الرأي الأول أن عثمان أمر الكتاب أن يقتصروا على لغة قريش ويتركوا ما سواها لكان القرآن خالياً من جميع اللغات إلا من لغة قريش وهذا باطل في الواقع لأن القرآن فيه من الكلمات الأخرى غير لغة قريش ما يفوق الحصر، فوجود هذه الكلمات في القرآن من أوضح البراهين على أن المصاحف لم يقتصر فيها على لغة قريش بل كتب فيها من الأحرف السبعة ما تواتر وثبت في العرضة الأخيرة.

وهاك بعض الأمثلة لهذه الكلمات:

روى أبو عبيد عن الحسن قال لنا: كنا لا ندري ما الأرائك حتى لقينا من أهل اليمن فأخبرنا أن الأريكة عنهم الحجلة في السرير،

وعن الضحاك في قوله تعالى " كلا لا وزر " قال لا حيل وهي بلغة أهل اليمن أيضا،

وأخرج أبو بكر الأنباري عن ابن عباس في قوله تعالى: " أفلم ييأس الذين آمنوا " قال ابن عباس أفلم يعلموا وهي لغة هوازن،

وورد أن قوله تعالى " لا يلتكم من أعمالكم شيئا " لا ينقصطم هي لغة عبس، ... وهكذا

خامسا: تناصرت الأدلة، وتظاهرت البراهين على أن بين المصاحف العثمانية اختلافاُ في مواضع كثيرة فقوله تعالى: "وتوكل على العزيز الرحيم " في الشعراء كتب بالواو في البعض وبالفاء بدلها في البعض الآخر،

وقوله تعالى: " وفيها ما تشتهيه الأنفس " في الزخرف كتب في بعضها بالهاء وفي بعضها بغير هاء هكذا " تشتهي "

وقوله تعالى: " ومن يتولى فإن الله هو الغني الحميد " في الحديد كتب في بعضها بإثبات لفظ هو، وفي بعضها بحذفه إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة.

فلو كانت المصاحف مكتوبة بلغة واحدة وهي لغة قريش لم يكن هناك داع لهذا الإختلاف. وقد يقال أن قول عثمان للرهط الثلاثة القرشيين " إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا " يدل لأصحاب الرأي الأول، والجواب عن ذلك أن عثمان لا يريد من وراء هذه المقالة إلا الاختلاف من حيث الرسم والكتابة لا من حيث جواهر الألفاظ والكلمات جمعاً بين الأدلة، وتوفيقا بين البراهين، على أنه لم يصل إلينا أنهم اختلفوا إلا في لفظ واحد وهو " التابوت " في قوله تعالى: " إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت " هل يكتب بالتاء أم بالهاء؟

فرجعوا إلى عثمان فأمرهم أن يكتبوه بالتاء لأنه يكتب فيها في لغة قريش، وقد يتمسك أصحاب الرأي الأول أيضا بقول عثمان " فأنما نزل بلسانهم " والحق أن لا متمسك لهم بهذا لأن القرآن أنزل بلسان قريش لأنهم هم المقصودون أولا، ثم وسع الله على الأمة بإنزاله باللغات الأخرى ليسهل عليهم ترتيله بغير تكلف يشغل عن تدبره.

كيف أرسلت هذه المصاحف إلى الأمصار:

إن نقل القرآن الكريم إنما يعتمد على التلقي من أفواه الشيوخ خلفا عن سلف، وثقة عن ثقة، وإماما عن إمام حتى يصلوا الى الحضرة النبوية،

ولذلك لما أراد عثمان إذاعة المصاحف وإرسالها إلى الأمصار لم يرسلها وحدها لتكون المرجع الوحيد بل أرسل مع كل مصحف إماما عدلا ضابطا تكون قراءته موافقة لما في هذا المصحف غالباً.

فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني،

وبعث عبد الله بن السائب مع المصحف المكي،

والمغيرة بن شهاب مع الشامي،

وبعث عبد الرحمن السلمي مع الكوفي،

وعامر بن عبد القيس مع البصري، ثم نقل التابعون في ذلك مقام الصحابة، ثم تفرغ جماعة للقراءة والإقراء، والتعليم والتلقين، حتى صاروا أئمة يقتدي بهم، ويؤخذ عنهم وأجمع أهل بلدهم على تلقي قراءتهم، واعتماد روايتهم.

ومن هنا نسبت القراءة إليهم وأجمعت الأمة وهي معصومة من الخطأ في اجماعها على ما في هذه المصاحف، وعلى ترك ما سواها من زيادة ونقص وتقديم وتأخير وغير ذلك لأنه لم يثبت عندهم ثبوتاً متواترا أنه من القرآن.

موقف المسلمين إزاء تلك المصاحف:

لما أمر عثمان رضي الله عنه بنسخ المصاحف، وكتابتها على ما ثبت في العرضة الأخيرة وترك ما سوى ذلك وقف منه الصحابة جميعا موقف التأييد والتعضيد، واستجابوا لندائه فحرقوا مصاحفهم واجتمعوا على المصاحف العثمانية حتى ورد أن عبد الله بن مسعود أنكر بادئ ذي بدء على عثمان لأنه آثر زيد بن ثابت في كتابة المصاحف على عبد الله، لما سبق من الأوصاف الموجبة لذلك، ولكنه لم يلبث أن رجع، وأقر ما عمله عثمان، واتفقت عليه كلمة الصحابة.

أخرج ابن أبي داود بسند صحيح عن علي رضى الله عنه أنه قال: لا تقولوا في عثمان إلا خيرا فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا. قال ما تقولون في هذه القراءة، فقد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك وهذا يكاد يكون كفرا قلنا ما ترى؟ قال: أرى أن يجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف، قلنا فنعم ما رأيت. أهـ

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير