وقال بعض العلماء: تقديره خافضة أقواما كانوا مرتفعين في الدنيا رافعة أقواما كانوا منخفضين في الدنيا، وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله تعالى، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ, وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} إلى قوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ, عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:29 - 35] , إلى غير ذلك من الآيات.
وقال بعض العلماء: تقديره، خافضة بعض الأجرام التي كانت مرتفعة كالنجوم التي تسقط وتتناثر يوم القيامة، وذلك خفض لها بعد أن كانت مرتفعة، كما قال تعالى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الانفطار:2] وقال تعالى: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير:2].
{رَافِعَةٌ} , أي: رافعة بعض الأجرام التي كانت منخفضة كالجبال التي ترفع من أماكنها وتسير بين السماء والأرض كما قال تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف:47]، فقوله: {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف:47]، لأنها لم يبق على ظهرها شيء من الجبال، وقال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88].
وقد قدمنا أن التحقيق الذي دل عليه القرآن، أن ذلك يوم القيامة، وأنها تسير بين السماء والأرض كسير السحاب الذي هو المزن.
وقد صرح بأن الجبال تحمل هي والأرض أيضا يوم القيامة. وذلك في قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ, وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [الحاقة:13 - 14].
وعلى هذا القول، فالمراد تعظيم شأن يوم القيامة، وأنه يختل فيه نظام العالم، وعلى القولين الأولين، فالمراد الترغيب والترهيب، ليخاف الناس في الدنيا من أسباب الخفض في الآخرة فيطيعوا الله ويرغبوا في أسباب الرفع فيطيعوه أيضا، وقد قدمنا مرارا أن الصواب في مثل هذا حمل الآية على شمولها للجميع.
قوله تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً, وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً, فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً}.
قد قدمنا أن الأظهر عندنا أن قوله: {إِذَا رُجَّتِ} , بدل من قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}، والرج: التحريك الشديد، وما دلت عليه هذه الآية من أن الأرض يوم القيامة تحرك تحريكا شديدا جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1]، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] , وقوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً} في معناه لأهل العلم أوجه متقاربة، لا يكذب بعضها بعضا وكلها حق، وكلها يشهد له قرآن.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة قد يكون فيها أوجه كلها حق وكلها يشهد له قرآن، فنذكر جميع الأوجه وأدلتها القرآنية.
الوجه الأول: قال أكثر المفسرين: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً} أي فتت تفتيتا حتى صارت كالبسيسة، وهي دقيق ملتوت بسمن، ومنه قول لص من غطفان أراد أن يخبز دقيقا عنده فخاف أن يعجل عنه، فأمر صاحبيه أن يلتاه ليأكلوه دقيقا ملتوتا، وهو البسيسة.
لا تخبزا خبزا وبسابسا ولا تطيلا بمناخ حبسا
وهذا الوجه يشهد له قرآن كقوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} [المزمل:14]، فقوله: {كَثِيباً مَهِيلاً} أي رملا متهايلا، ومنه قول امرىء القيس:
ويوما على ظهر الكثيب تعذرت علي وآلت حلفة لم تحلل
ومشابهة الدقيق المبسوس بالرمل المتهايل واضحة، فقوله: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} مطابق في المعنى لتفسير {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً} بأن بسها هو تفتيتها وطحنها كما ترى.
¥