واعلم أن الشكر يطلق من العبد لربه ومن الرب لعبده.
فشكر العبد لربه، ينحصر معناه في استعماله جميع نعمه فيما يرضيه تعالى، فشكر نعمة العين ألا ينظر بها إلا ما يرضي من خلقها، وهكذا في جميع الجوارح، وشكر نعمة المال أن يقيم فيه أوامر ربه ويكون مع ذلك شاكر القلب واللسان، وشكر العبد لربه جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى هنا: {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} وقوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] , والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وأما شكر الرب لعبده فهو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158] وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34] إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه لغوي:
اعلم: أن مادة الشكر تتعدى إلى النعمة تارة، وإلى المنعم أخرى، فإن عديت إلى النعمة تعدت إليها بنفسها دون حرف الجر كقوله تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل:19]، وإن عديت إلى المنعم تعدت إليه بحرف الجر الذي هو اللام كقولك: نحمد الله ونشكر له، ولم تأت في القرآن معداة إلا باللام، كقوله: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] , وقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] , وقوله: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172] , وقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17] , إلى غير ذلك من الآيات.
وهذه هي اللغة الفصحى، وتعديتها للمفعول بدون اللام لغة لا لحن، ومن ذلك قول أبي نخيلة:
شكرتك إن الشكر حبل من اتقى وما كل من أوليته نعمة يقضى
وقول جميل بن معمر:
خليلي عوجا اليوم حتى تسلما على عذبة الأنياب طيبة النشر
فإنكما إن عجتما لي ساعة شكرتكما حتى أغيب في قبري
وهذه الآيات من سورة الواقعة قد دلت على أن اقتران جواب لو باللام، وعدم اقترانه بها كلاهما سائغ، لأنه تعالى قال: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} باللام ثم قال: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} بدونها.
قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ}.
قوله تعالى: {الَّتِي تُورُونَ} أي توقدونها من قولهم: أورى النار إذا قدحها وأوقدها، والمعنى: أفرأيتم النار التي توقدونها من الشجر أأنتم أنشأتم شجرتها التي توقد منها، أي أوجدتموها من العدم؟
والجواب الذي لا جواب غيره: أنت يا ربنا هو الذي أنشأت شجرتها، ونحن لا قدرة لنا بذلك فيقال: كيف تنكرون البعث وأنتم تعلمون أن من أنشأ شجرة النار وأخرجها منها قادر على كل شيء؟ وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون خلق النار من أدلة البعث، وجاء موضحا في يس في قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ, الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:79 - 80] , فقوله في آخر يس: {تُوقِدُونَ} هو معنى قوله في الواقعة: {تُورُونَ} وقوله في آية يس: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً} بعد قوله: {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} دليل واضح على أن خلق النار من أدلة البعث. وقوله هنا: {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} أي الشجرة التي توقد منها كالمرخ والعفار، ومن أمثال العرب في كل شجر نار، واستنجد المرخ والعفار، لأن المرخ والعفار هما أكثر الشجر نصيبا في استخراج النار منهما، يأخذون قضيبا من المرخ ويحكمون به عودا من العفار فتخرج من بينهما النار. ويقال كل شجر فيه نار إلا العناب.
وقوله: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} أي نذكر الناس بها في دار الدنيا إذا أحسوا شدة حرارتها. نار الآخرة التي هي أشد منها حرا لينزجروا عن الأعمال المقتضية لدخول النار، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: أن حرارة نار الآخرة مضاعفة على حرارة نار الدنيا سبعين مرة, فهي تفوقها بتسع وستين ضعفا كل واحد منها مثل حرارة نار الدنيا سبعين مرة. فهي تفوقها بتسع وستين ضعفا كل واحد منها مثل حرارة نار الدنيا.
وقوله تعالى: {وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} أي منفعة للنازلين بالقواء من الأرض، وهو الخلاء والفلاة التي ليس بها أحد، وهم المسافرون، لأنهم ينتفعون بالنار انتفاعا عظيما في الاستدفاء بها والاستضاءة وإصلاح الزاد.
وقد تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كون اللفظ واردا للامتنان. وبه تعلم أنه لا يعتبر مفهوما للمقوين، لأنه جيء به للامتنان أي وهي متاع أيضا لغير المقوين من الحاضرين بالعمران، وكل شيء خلا من الناس يقال له أقوى، فالرجال إذا كان في الخلا قيل له: أقوى, والدار إذا خلت من أهلها قيل لها أقوت.
ومنه قول نابغة ذبيان:
يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأبد
وقول عنترة: حيت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
وقيل للمقوين: أي للجائعين، وقيل غير ذلك، والذي عليه الجمهور هو ما ذكرنا.
قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}.
قد قدمنا الكلام عليه في أول سورة النجم.
¥