ـ[عز الدين القسام]ــــــــ[05 - 06 - 2008, 11:47 م]ـ
العيب في الإعراب
وقد يضطر الشاعر فيسكن ما كان ينبغي له أن يحركه، كقول لبيد:
ترَّاكُ أَمْكنَةٍ إذَا لَمْ أَرْضَهَا = أَوْ يَعْتلِقْ بَعْضَ النُّفُوِس حِمَامُهَا
يريد: أترك المكان الذي لا أرضاه إلى أن أموت، لا أزال أفعل ذلك.
وأو هاهنا بمنزلة حتى. وكقول امرىء القيس:
فاليوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحِقبٍ = إثماً مِنَ اللهِ ولاَ واغِلِ
ولولا أن النحويين يذكرون هذا البيت ويحتجون به في تسكين المتحرك لاجتماع الحركات، وأن كثيراً من الرواة يروونه هكذا، لظننته.
فاليَوْمَ أُسْقَى غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ
قال أبو محمد: وقد رأيت سيبويه يذكر بيتاً يحتج به في نسق الاسم المنصوب على المخفوض، على المعنى لا على اللفظ، وهو قول الشاعر:
مُعَاوِىَ إِنَّنَا بَشَرٌ فأَسْجِعْ = فَلَسْنَا بالجبَالِ ولا الحَدِيدَا
قال: كأنه أراد: لسنا الجبال ولا الحديدا، فرد الحديد على المعنى قبل دخول الباء، وقد غلظ على الشاعر، لأن هذا الشعر كله مخفوضٌ، قال الشاعر:
فهبْهَا أُمَّةً ذَهَبَتْ ضَيَاعاً = يَزِيدُ أَمِيُرهَا وأَبُو يَزِيدِ
أَكَلْتُمْ أَرْضَنَا وجَرَدْتُمُوهَا = فَهَلْ مِنْ قَائِمٍ أَوْ مِنْ حَصِيدِ
ويحتج أيضاً بقول الهذلي في كتابه، وهو قوله:
يَبِيتُ على مَعارِىَ فَاخِرَاتٍ =بِهِنَّ مُلَوَّبٌ كَدَمِ العِبَاطِ
وليست هاهنا ضرورة فيحتاج الشاعر إلى أن يترك صرف معارٍ ولو قال
يَبِيتُ على مَعَارٍ فَاخِراتٍ
كان الشعر موزونا والإعراب صحيحاً.
قال أبو محمد: وهكذا قرأته على أصحاب الأصمعي.
وكقوله في بيتٍ آخر:
لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ =ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيحُ الطْوَائحُ
وكان الأصمعي ينكر هذا ويقول: ما اضطره إليه؟ وإنما الرواية:
لِيَبْكِ يَزِيدَ ضَارِعٌ لِخُصُومَة
وكذلك قول الفراء:
فَلَئنْ قَوْمٌ أَصَابُوا عِزَّةً = وأَصَبْنَا مِن زَمَانٍ رَنَقَا
للَقَدْ كَانُوا لَدَى أَزْمَاتِهِ = لَصَنِيِعينَ لِبَأْسٍ وتُقَى
هو فلقد كانوا وهذا باطل.
وكذلك قوله:
مَنْ كانَ لاَ يَزْعُمُ أَنِّي شَاعِرٌ = فَيَدْنُ مِنِّي تَنْهَهُ المَزَاجِرُ
إنما هو فليدن مني وبه يصح أيضاً وزن الشعر.
وكذلك قوله:
فَقُلْتُ اعِي وأَدْعُ فَإِنَّ أَنْدَى = لِصَوتٍ أَنْ يُنَادِىَ دَاعِيَانِ
إنما هو:
فَقُلْتُ ادْعِى وأَدْعُوَ إنَّ أنْدَى
وكقول الفرزدق:
رُحْتِ وفي رِجْلَيْكِ عُقَّالَةٌ = وقدْ بَدَا هَنْكِ مِنَ المِئْزَر
وقد يضطر الشاعر فيقصر الممدود، وليس له أن يمد المقصور. وقد يضطر فيصرف غير المصروف، وقبيحٌ ألا يصرف المصروف. وقد جاء في الشعر، كقول العباس بن مرداس السلمى:
وما كانَ بَدْرٌ ولا حابِسٌ = يَفُوقَانِ مرْدَاسَ في مَجْمَعِ
وأما ترك الهمز من المهموز فكثيرٌ واسعٌ، لا عيب فيه على الشاعر، والذي لا يجوز أن يهمز غير المهموز.
وليس للمحدث أن يتبع المتقدم في استعمال وحشي الكلام الذي لم يكثر، ككثير من أبنية سيبويه، واستعمال اللغة القليلة في العرب، كإبدالهم الجيم من الياء، كقول القائل:
يا رب إن كنت قبلت حجتج يريد حجتي وكقولهم جمل بختج يريدون بختى وعلج يريدون علي.
وإبدالهم الياء من الحرف في الكلمة المخفوضة، كقول الشاعر:
لَهَا أَشَارِيرُ مِنْ لَحْمٍ تُتَمِّرُهُ = مِنَ الثَّعالِي ووَخْزٌ منْ أَرانِيهَا
يريد من أرانبها وكقول الآخر: ولضفادى جمه نقانق يريد ضفادع.
وكإبدالهم الواو من الألف، كقولهم أفعو وحبلو يريدون أفعى وحبلى وقال ابن عباس: لا بأس برمي الحدو للمحرم وأستحب له ألا يسلك فيما يقول الأساليب التي لا تصح في الوزن ولا تحلو في الأسماع، كقول القائل:
قُلْ لِسُلَيْمى إذَا لاَقَيْتَهَا = هَلْ تَبْلُغِنَّ بَلْدَةً إلا بِزَادْ
قُلْ للصَّعَالِيكِ لا تَسْتحْسِرُوا = مِن الْتماسٍ وسَيْرٍ في البِلاَدْ
فالغَزْوُ أَحْجَى على مَا خَيَّلَتْ = مِن اضْطِجَاعٍ على غَيْرِ وِسَادْ
لَوْ وصَلَ الغَيْثُ أَبْنَاءَ امْرِىءٍ = كانَتْ لَهُ قُبَّةً سَحْقُ بجَادْ
وبَلْدَةٍ مُقْفِرٍ غِيطَانُها =أَصْدُاؤُهَا مَغْرِبَ الشَّمْسِ تَنادْ
قَطَعْتُها صَاحبي حُوشيَّةٌ=في مِرْفَقَيْهَا عنِ الزَّوْرِ تَعَادْ
وكقول المرقش:
هَلْ بالدِّيارِ أنْ تُجِيبَ صَمَمْ = لَوْ أنَّ حَيًّا نَاطِقاً كَلَّمْ
يَأْبِى الشَّبَابُ الأقُوَرِينَ ولاَ = تَغبِطْ أَخاكَ أَنْ يُقَالَ حَكَمْ
قال أبو محمد: وهذا يكثر، وفيما ذكرت منه ما دلك على ما أردت من اختيارك أحسن الروى، وأسهل الألفاظ، وأبعدها من التعقيد والاستكراه وأقربها من إفهام العوام. وكذلك أختار للخطيب إذا خطب، والكاتب إذا كتب. فإنه يقال: أسير الشعر والكلام المطمع، يراد الذي يطمع في مثله من سمعه، وهو مكان النجم من يد المتناول.
قال أبو محمد: وقد أودعت كتاب العرب في الشعر أشياء من هذا الفن ومن غيره، وستراها هناك مجموعةٌ كافيةٌ، إن شاء الله عز وجل.
يتبع
¥