تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قدِمَ النعمانُ بنُ المنذر ِ على كِسرى، وعنده وفودُ الروم ِ والهندِ والصين ِ، فذكروا مِن ملوكِهم وبلادِهم. فافتخرَ النعمان ُ بالعرب ِ وفضلِهم على جميع ِ الأمم ِ، لا يستثني فارسًا ولا غيرَها. فقالَ كسرى - وأخذتْه عزة ُ المُلك ِ - يا نعمانُ، لقد فكرتُ في أمر ِ العرب ِ وغيرِهم من َ الأمم ِ، ونظرتُ في حال ِ مَن يَقدُمُ عليّ مِن وفودِ الأمم ِ، فوجدتُ الرومَ لها حظ ٌّ في اجتماع ِ ألفتِها، وعِظم ِ سلطانِها، وكثرةِ مدائنِها، ووثيق ِ بنيانِها، وأنّ لها دِيناً يبينُ حلالَها وحرامَها، ويردُّ سفيهَها، ويقيمُ جاهلَها. ورأيتُ الهندَ نحوًا مِن ذلك في حكمتِها وطِبِّها، معَ كثرةِ أنهارِ بلادِها وثمارِها، وعجيبِ صناعاتِها، وطيب ِ أشجارِها، ودقيق ِ حسابِها، وكثرةِ عددِها. وكذلك الصينُ في اجتماعِها، وكثرةِ صناعاتِ أيديها في آلةِ الحربِ وصناعةِ الحديدِ، وفروسيتِها وهمتِها، وأنّ لها ملكًا يجمعُها. والتركُ والخَزَرُ على ما بهم مِن سوءِ الحال ِ في المعاش ِ، وقلةِ الرِّيفِ (1) والثمارِ والحصونِ، وما هو رأسُ عمارةِ الدنيا منَ المساكنِ والملابسِ، لهم ملوكٌ تضمُّ قواصيَهم، وتدبرُ أمرَهم، ولم أرَ للعربِ شيئًا مِن خِصَالِ الخير ِفي أمرِ دينٍ ولا دُنياً، ولا حزمَ ولا قوة َ معَ أنّ مما يدلُّ على مهانتِها وذُلهَا وصِغَر ِهمتِها مَحِلَّتَهم (2) التي هم بها مع الوحوش ِ النافرةِ، والطيرِ الحائرةِ. يقتلون أولادَهم من الفاقَةِ، ويأكلُ بعضُهم بعضًا منَ الحاجةِ. قد خرجوا مِن مطاعم ِ الدنيا وملابسِها ولهوِها ولذتِها. فأفضلُ طعامٍ ظفرَ به ناعمُهم لحومُ الإبل ِ التي يعافُها كثيرٌ منَ السباع ِ، لثقلِها وسوءِ طعمِها وخوفِ دائِها. وإنْ قرى أحدُهم ضيفًا عدَّها مَكْرُمة ً، وإنْ أطعمَ أكلة ً عدَّها غنيمة ً تنطقُ بذلك أشعارُهم، وتفتخرُ بذلك رجالُهم، ما خلا هذه التنوخية َ التي أسَّسَ جدي اجتماعَها، وشدَّ مملكتَها، ومنعَها مِن عدوِّها، فجرى لها ذلك إلى يومِنا هذا. وإنّ لها معَ ذلك آثارًا ولبوسًا (3)، وقرىً وحصونًا، وأمورًا تشبه بعضَ أمورِ الناس ِ - يعني اليمن َ - ثم لا أراكم تستكينون على ما بكم من الذلةِ والقِلَّةِ، والفاقةِ والبؤس ِ، حتى تفتخروا وتريدوا أنْ تنزلوا فوقَ مراتبِ الناس ِ.

قالَ النعمان ُ:

" أصلحَ اللهُ الملكَ، حُق َّ (4) لأمةٍ الملك منها أن يسموَ فضلُها، ويعظُمُ خطبُها، وتعلو درجتُها إلا أنّ عندي جوابًا في كلِّ ما نطقَ به الملكُ، وفي غيرِ ردٍّ عليه، ولا تكذيب ٍ له، فإن أمَّنني مِن غضبِه نطقتُ به ". قالَ كسرى: قلْ، فأنتَ آمنٌ.

فقالَ النعمانُ:

" أما أمتُكَ - أيها الملكُ - فليستْ تنازعُ في الفضل ِ؛ لموضعِها الذي هي به من عقولِها وأحلامِها، وبَسْطَةِ مَحِلِّها، وبُحْبُوحةِ عزِّها، وما أكرمَها اللهُ به مِن ولايةِ آبائِك وولايتِك. وأما الأممَ التي ذكرتَ، فأيُّ أمةٍ تَقْرِنُها بالعربِ إلا فَضَلتْها. قالَ كِسرى: بماذا؟

قالَ النعمانُ: بعزِّها ومنعتِها وحسن ِ وجوهِها وبأسِها وسخائِها وحكمةِ ألسنتِها وشدةِ عقولِها وأنفتِها ووفائِها.

فأما عزُّها ومنعتُها، فإنها لم تزلْ مجاورةً لآبائِك الذين دوَّخوا البلادَ، ووطَّدوا الملكَ، وقادوا الجُندَ، لم يطمعْ فيهم طامعٌ، ولم ينلْهم نائلٌ، حصونُهم ظهورُ خيلِهم، ومهادُهم الأرضُ، وسقوفُهم السماءُ، وجُنَّتُهُمُ السيوفُ، وعُدَّتُهُم الصبرُ؛ إذ غيرُها منَ الأمم ِ، إنما عزُّها منَ الحجارةِ والطين ِ وجزائر ِ البحور ِ.

وأما حُسْنُ وجوهِها وألوانُها، فقد يعرفُ فضلَهم في ذلك على غيرِهم منَ الهندِ المُنْحَرفةِ، والصينِ المُنْحَفَةِ، والتركِ المُشَوَّهَةِ، والرومِ المُقَشَّرةِ.

وأما أنسابُها وأحسابُها، فليستْ أمة ٌ منَ الأمم ِ إلا وقد جَهِلَتْ آباءَها وأصولَها وكثيرًا منْ أولِها، حتى إنّ أحدَهم ليُسْألُ عمن وراءَ أبيه دنيًا (5)، فلا ينسبُه ولا يعرفُه، وليسَ أحدٌ منَ العرب ِ إلا يُسمي آباءَه أبًا فأبًا، حاطوا بذلكَ أحسابَهم، وحفظوا به أنسابَهم، فلا يدخلُ رجلٌ في غيرِ قومِه، ولا ينتسبُ إلى غيرِ نسبِه، ولا يُدعَى إلى غيرِ أبيه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير