وأما سخاؤها، فإنّ أدناهم رجلاً الذي تكونُ عندَه البَكْرَةُ والنابُ (6)، عليها بلاغُهُ (7) في حُمُولِه (8) وشِبَعِه و رِيِّه ِ، فيطرقُه الطارقُ الذي يَكتَفي بالفَلْذة ِ (9) ويجتزئُ بالشَّرْبةِ، فيعقرُها له، ويرضى أنْ يخرجَ عنْ دنياهُ كلِّها فيما يكسبُه من حُسْنِ الأحدوثةِ وطيبِ الذكرِ.
وأما حكمة ُ ألسنتِهم، فإنّ الله - تعالى - أعطاهم في أشعارِهم ورونق ِ كلامِهم وحسنِه ووزنِه وقوافيه معَ معرفتِهم بالأشياءِ، وضربِهم للأمثالِ، وإبلاغِهم في الصفاتِ ما ليسَ لشيءٍ من ألسنةِ الأجناسِ. ثم خيلُهم أفضلُ الخيل ِ، ونساؤهم أعفُّ النساء ِ، ولباسُهم أفضلُ اللباس ِ، ومعادنُهم الذهبُ والفضة ُ، وحجارةُ جبالِهم الجَزْع ِ (10)، ومطاياهم التي لا يبلغُ على مثلِها سفرٌ ولا يُقطعُ بمثلِها بلدٌ قَفْرٌ.
وأما دينُها وشريعتُها، فإنهم متمسكون به، حتى يبلغَ أحدُهم من نُسُكِه بدينِه أنّ لهم أشهرًا حُرُمًا، وبلدًا مُحَرَّمًا، وبيتًا محجوجًا، ينسكون فيه مناسكَهم، ويذبحون فيه ذبائحَهم، فيلقى الرجلُ قاتلَ أبيه أو أخيه، وهو قادرٌ على أخْذِ ثأرِه وإدراكِ رَغْمِهِ (11) منه، فيحجزُه كرمُه، ويمنعُه دينُه عن تناولِه بأذىً.
وأما وفاؤها، فإنّ أحدَهم يلحظ ُ اللحظة َ، ويومئُ الإيماءة َ فهي وَلْثٌ (12) وعُقدةٌ لا يحلُّها إلا خروجُ نَفَسِهِ. وإنّ أحدَهم ليرفعُ عودًا منَ الأرضِ فيكونُ رهنًا بدينِه،
فلا يَغْلََقُ رهنُه (13)، ولا تُخْفَرُ (14) ذمتُه. وإنّ أحدَهم ليبلغُه أنّ رجلاً استجارَ به، وعسى أنْ يكونَ نائيًا عنْ دارِه، فيصابُ، فلا يرضى حتى يفنيَ تلك القبيلة َ التي أصابتْه أو تفنى قبيلتُه، لما أُخْفِرَ من جوارِه، وإنه ليلجأ ُ إليهم المجرمُ المُحْدِثُ منْ غيرِ مَعْرفةٍ ولا قرابةٍ، فتكونُ أنفسُهم دونَ نفسِه، وأموالُهم دونَ مالِه.
وأما قولُك - أيها الملكُ -: (يئدون أولادَهم)، فإنما يفعلُه مَنْ يفعلُه منهم بالإناثِ أنفة ً منَ العار ِ وغَيْرَة ً منَ الأزواج ِ.
أما قولُك: (إنّ أفضلَ طعامِهم لحومُ الإبل ِ) على ما وصفتَ منها، فما تركوا ما دونها إلا احتقارًا له، فعمدوا إلى أجلِّها وأفضلِها، فكانتْ مراكبُهم وطعامُهم؛ معَ أنها أكثرُ البهائم ِ شحومًا، وأطيبُها لحومًا، وأرقُّها ألبانًا، وأقلُّها غائلة ً (15)، وأحلاها مَضْغَة ً، وإنه لا شيءَ منَ اللُّحْمَان ِ يُعَالجُ ما يُعَالجُ به لحمُها إلا استبانَ فضلُها عليه.
وأما تحاربُهم وأكْلُ بعضِهم بعضًا، وتركُهم الانقيادَ لرجل ٍ يسوسُهم ويجمعُهم؛ فإنما يفعلُ ذلك مَنْ يفعلُه منَ الأمم ِ إذا أنِسَتْ منْ نفسِها ضعفًا، وتخوَّفتْ نهوضُ عدوِّها إليها بالزحفِ، وإنه إنما يكونُ في المملكةِ العظيمةِ أهلُ بيتٍ واحدٍ يُعرفُ فضلُهم على سائرِ غيرِهم، فيلقون إليهم أمورَهم، وينقادون لهم بأزمَّتِهم، وأما العربُ فإنّ ذلك كثيرٌ فيهم، حتى لقد حاولوا أنْ يكونوا ملوكًا أجمعين، مع أنَفَتِهم منْ أداءِ الخراج ِ والوَطْثِ (16) بالعَسْفِ.
وأما اليمنُ التي وصفَها الملكُ، فإنما أتى جدَّ الملكَ الذي (17) أتاه عندَ غلبةَ الحُبشِ له، على مُلكٍ مُتَّسِق ٍ، وأمرٍ مجتمع ٍ، فأتاه مسلوبًا طريدًا مستصرخًا قد تقاصرَ عن إيوائِه، وصَغُرَ في عينه ما شُيِّدَ مِن بنائِه؛ ولولا ما وترَ به مَن يليه مِنْ العربِ، لمَال إلى مجالٍ، ولوجدَ مَن يُجيدُ الطِّعَان ِ، ويغضبُ للأحرارِ، مِنْ غلبةِ العبيدِ الأشرارِ ".
قالَ: فعَجِبَ كسرى لما أجابَه النعمانُ به، وقالَ: إنك لأهلٌ لموضعِك منَ الرياسةِ في أهلِ إقليمِك ولما هو أفضلُ. ثم كساه كِسْوَتَه، وسرَّحَه إلى موضعِه مِنْ الحِيْرةِ.
فلما قدمَ النعمانُ الحِيْرة َ وفي نفسِه ما فيها مما سمعَ مِن كسرى مِن تنقُّصِ العرب ِ
¥