يُدْعَونَ ضِيفَانًا، وجُعِل لهم من الضريح أكنان (الأكنان: ستر، أشياء تخفيهم)، ومن التراب أكفان، ومن الرفات جيران، فهم جيرة لا يجيبون داعيًا، ولا يمنعون ضيمًا (الضيم: الظلم)، ولا يبالون مندبة، إن أخصبوا لم يفرحوا، وإن أقحطوا لم يقنطوا، جَمْعٌ وهُمْ آحاد، وجِيرَةٌ وهم أبعاد، متناؤون لا يزورون ولا يُزارون، حكماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم، لا يُخشى فَجْعُهُمْ، ولا يُرجَى دَفْعُهُمْ، وكما قال الله تعالى:?فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ?) القصص:58 (استبدلوا بظهر الأرض بطنًا، وبالسعة ضيقًا، وبالأهل غربة، وبالنور ظلمة، فجاؤوها كما فارقوها حفاةً عراةً فرادى، غير أن ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة، وإلى خلود الأبد، يقول الله تعالى: ?كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ?) الأنبياء:104 (
فاحذروا ما حذركم الله، وانتفعوا بمواعظه، واعتصموا بحبله، عصمنا الله وإياكم بطاعته، ورزقنا وإياكم أداء حقه".
الشرح
خضرة أي ناضرة كقول النبي (ص): "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها "، وحفت بالشهوات كأن الشهوات مستديرة حولها كما يحف الهودج بالثياب أو أطافوا به.، وتحبب بالعاجلة: أي تحبب الناس بكونها لذة عاجله، والنفوس مغرمة مولعة بحب العاجل، وقوله راقت بالقليل أي أعجبت اهلها، وإنما اعجبتهم بأمر قليل ليس بدائم، وتحلت بالآمال من الحلية، أي تزينت عند أهلها بما يؤملون منها، وتزينت بالغرور أي تزينت عند الناس بغرور لا حقيقة له، والحبرة السرور والحائلة: متغيرة،ونافذة: فانية، بائدة: منقضيه، وأكّاله:قتاله، وغواله: مهلكه.
ثم قال إذا هي تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا عنها- أن تكون كما قال الله تعالى: ?كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا? فاختلط: أي فالتلت بنبات الأرض، وتكاثف به، أي بسبب ذلك الماء ونزوله عليه، ويجوز أن يكون تقديره: فاختلط بنبات الأرض لأنه لما أنماه وغذاه فقد صار مختلطاً به ولما كان كل واحد من المختلطين مشاركاً لصاحبه في مسمى الإختلاط جاز "فاختلط به نبات الأرض" والهشيم: ما تهشم وتحطم وتذروه الرياح تطيره، وقوله ولم يلق من سرَّائها بطن إلا منحته من ضرائها إنما خص السراء بالبطن والضّراء بالظهر لأن الملاقي لك بالبطن ملاقي لك بالوجه، فهو مقبل عليك، والمعطيك ظهره مدبر عنك، وطلله السحاب، إذا أمطر عليه مطرا قليل، وقوله حريّ أي جدير وخليق، واعذوذب صار عذبا، واحلولى صار حلواً ومن هنا أخذ الشاعر قوله:
ألا إنما غضارة أيكة = إذا خضر منها جانب جف جانب
فلا تكتحل عيناك منها بعبرة = على ذاهب منها فإنك ذاهب
وقوله وأمَرّ الشيء أي صار مراً، والرغب مصدر رغبت، أي أردت، وقوله: أرهقته من نوائبها تعبا:يقال:أرهقه إثما، حمّله وكلّفه، وسبب اختصاص الامن بالجناح والخوف بالقوادم، لأن القوادم مقاديم الريش، والراكب عليها بعرض خطر عظيم وسقوط قريب، والجناح يستر ويقي البرد والأذى، قال أبو نواس:
تغطيت بدهري بظل جناحه = فصرت أرى دهري وليس يراني
ولو تسأل الأيام ما إسمي لما دَرَت = وأين مكاني ما عرفن مكاني
وقوله توبقه: تهلكه، والأبهه الكبر والرنق بفتح النون أي تكدر، أجاجا: ماء أجاج قد جمع المرارة والملوحه، والصبر: هذا النبات المرّ نفسه، ثم سمي كل مر صبراً، والسمام جمع سم لهذا القاتل، والجمع سمام وسموم، ورمام باليه، اسبالها: احبالها، موفورها: ذو الوفرة والثروة منها، والمحروب المسلوب.
ثم أخذ قوله تعالى " وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال " فقال: الستم في مساكن من كان أطول منكم اعماراً وتم نصب أطول لانه خبر كان، وقد دلنا الكتاب الصادق على أنهم كانوا أطول أعمارا بقوله " فلبث فيهم الف سنة إلا خمسين عاماً " وثبت بالعيان أنهم أبقى آثاراً فإن من آثارهم الأهرام والإيوان ومنارة الإسكندرية، و الفوادح: المثقلات، فدحه الدين أثقله، وضعضعت البناء: أي اهدمته، كقول الشاعر ابراهيم العاملي:
وبسيفه الإسلام قام فركنه = حتى القيام بناه لا يتضعضع وقوله وقد رأيتم تنكرها لمن دان لها أي أطاعها ودان لها أيضا: ذل، وأخلد لها: مال، قال تعالى "ولكنه أخلد إلى الأرض "، و السغب: الجوع، ومعنى قوله:او نورت لهم الظلمه أي لم تسمح لهم بالنور بل بالظلمه، والضنك: الضيق. ثم قال: فبئست الدار وحذف الضمير العائد اليها وتقديره "هي " كما قال تعالى " نعم العبد"، وتقديره هو.، ومن لم يتهمها أي لم يسؤ ظناً بها، والأكنان جمع كن وهو الستر، قال تعالى:"وجعل لكم من الجبال أكنانا " والرفات العظام البالية والمندبة: الندب على الميت وقحطوا أي اصابهم القحط.
المصادر:
العقد الفريد لابن عبد ربه الاندلسي.
البيان والتبيين للجاحظ.
شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي.
¥