[أركان (تربية القرآن)]
ـ[عصام العويد]ــــــــ[29 Nov 2010, 01:28 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
[أركان (تربية القرآن)]
أنزل الله عز وجل في كتابه المجيد أربع سور من تأملها وقف على أركان تربية القرآن لأهل الإيمان، وجميع هذه السور من أوائل ما نزل باتفاق المفسرين وهي: اقرأ فالمدثر ثم المزمل ثم القلم، بل إنها عند المحققين منهم نزلت متقاربة جدا في زمن نزولها، كما دلّ عليه الترتيب المشهور للسور عن جابر بن زيد تلميذ ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين.
وهذه الأركان الأربعة هي:
1ـ العلم في سورة (اقرأ)
2ـ الدعوة في سورة (المدثر)
3 ـ العبادة الخفية في (المزمل)
4 ـ الخُلق الجميل في (القلم)
وكل واحدة من هذه السور تضمنت أمورا أربعة:
الأول: ماهيةُ وحقيقة هذا الركن.
الثاني: وسائل تحقيقه في النفس.
الثالث: العوائق والعوالق التي تحول دون بلوغه.
الرابع: قياس تحقيق هذا الركن في الحياة.
الركن الأول: العلم المأمور به في سورة (اقرأ)
هذا هو الركن الأول من أركان تربية القرآن، ووجه كونه الأول أن من عادة القرآن ـ وعادته محكمة ـ ألا يُقدِّم عليه غيره، فأول أمرٍ في القرآن إنما هو بالعلم (اقرأ)، وأول قسم في القرآن جاء بأداة العلم (والقلم)، وحين أُمر بالعلم والعمل معاً قُدم العلم (فاعلم).
- وحقيقة هذا العلم ورأسه هو العلم بالله ثم بموعوده ثم بأحكامه.
ولله درُّ ابن القيم حين قال:
والعلم أقسام ثلاث ما لها ... من رابع والحق ذو تبيان
علم بأوصاف الإله وفعله ... وكذلك الأسماء للرحمن
والأمر والنهي الذي هو دينه ... وجزاؤه يوم المعاد الثاني
وقد بدأت السورة بالعلم بقدرة الله: (بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ)، ثم بالعلم بكرم الله (اقْرَأْوَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)، ثم بالعلم بإحاطة الله (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى).
ثم ثنّت بموعوده: (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)، (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ).
ثم ثلَّثت بأمره ونهيه فذكرت من المأمورات الصلاة مرتين والهدى والتقى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى)، (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)، ونهت عن طاعة ذاك الجاهل الذي ينهى عن الصلاة (كَلَّا لَا تُطِعْهُ)، وهذا كله مما ينبه على عظيم العلاقة بين العلم والصلاة.
- وأما وسيلة تحقيقه في النفوس:
فقد نبهت السورة إلى الوسيلة العظمى لمعرفة العبد الصغير بربه العظيم سبحانه وهي (القراءة)، وكررت الأمر (اقرأ) مرتين، ولكل أمر ما يميزه عن صِنوه.
فأمرُ الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في مطلع السورة متوجه إلى نوعين من القراءة:
أما الأول: فهو قراءة وحيه الذي خصه به.
وهذه القراءة لن تنفع صاحبها نفعاً تاماً حتى تكون ملتصقةً بـ (اسم الله) مستمدة العون منه، ومستحضرةً نعمة (الربِّ الأكرم) الذي علمها هذا العِلم الأعظم.
وأما الثاني: فهو قراءة كونه الذي دلَّ عليه.
وهذا النوع الثاني نبهت السورة على تنوع دلالته بتكرار الأمر به، فتارة تدل هذه القراءة في الكون على (كمال القدرة) من خلال خلقه للإنسان من مجرد علقة، وتارة تدل على (تمام النعمة) بأعظمِ منّة وأكرمِ عطية وهي العلم وأداة العلم.
فمن أراد معرفة الله حق معرفته فلا غنى له عن الولوج من هذين البابين العظيمين:
"القراءة بتدبرٍ في الآيات المتلوة وبتفكرٍ في الآيات الكونية"
ومن أعظم ما يورث معرفة الله وتعظيمه كثرة التدبر في آيات يوم القيامة التي ملأت ما بين الدفتين من الكتاب المبين.
- وأما العوائق والعوالق التي تحول دون بلوغه.
فقد نبهت السورة على أشدها نكالا، وهما جنسان من الجهل:
أحدهما: جهل الإنسان بحقيقة نفسه، فلا يعرف قدرها ويجهل فقرها، مع وضوح دلائله (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى).
وهذا الجهل بالنفس لا يكون عادة في طرفي الحياة وإنما في حال الفتوة والقوة، فذكره الله بحال البدء وهو الخلق من (علق)، والانتهاء الذي تليه (الرجعى).
ثانيهما: جاهل يريد أن يصد الإنسان عن العلم الذي فيه نجاته (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى)، والصلاة رأس العمل الذي يُورثه أزكى العلم.
وكل تكذيب أو إعراض من هذا الإنسان إنما سببه الجهل ونقص العلم بالله وصفاته (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) فلو علم العلم الحق بالله لصدق ثم أذعن.
- أما قياس هل حققنا هذا الركن في حياتنا أم لا؟
فقد قال الله عز وجل في ختامها (كَلَّا لَا تُطِعْهُ) أي لا تطع هذا الجاهل، (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) فمن أراد أمارة العلم النافع فهي في زيادة المعرفة بالله التي تورث التذلل بين يديه بالسجود (واسجد)، ومحبة القرب منه (واقترب).
فمن لم يورثه العلم ذلك فما حصله في حقيقته ليس بعلم، ولذا روى أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:
"ليس العلم بكثرة الرواية، ولكن العلم الخشية "
فأخذها منه مجاهد والنخعي والحسن والثوري والفضيل وأحمد وغيرهم فقالوا: "إنما العلم الخشية"،
حتى عقد الإمام الدارمي في سننه باباً أسماه "بابٌ من قال: العلم الخشية"
رزقنا الله العلم الحق باطناً وظاهراً
وجعل الله سورة "اقرأ" حجة لنا لا علينا
..........
وللموضوع تتمة إن يسر الله وأعان،،