والنهي عن (المنّ) هنا نهي عن تعداد الداعية لنعمه سواء ذكرها في نفسه أو على المدعوين، فالمنّ: تذكير المنعِم المنعَمَ عليه بإنعامه. والاستكثار: عدّ الشيء كثيراً، واستعظامه في النفس، فيبدأ الداعية بعدِّ كم عدد من اهتدى على يديه ونوعهم، وكم أقام من المشاريع وأثرها، وكم بنى من مسجد، وكم أنفق من درهم، وكم أنكر من منكر، وهذا وشبهه خلاف الأدب الواجب مع الله، وهو لا يليق بالعامة فكيف بالدعاة؟!
وختمت الصفات بالأمر بالصبر لأن الداعية بدون صبر ضرره أعظم من نفعه.
والنص على التكبير والتطهير فيهما تهيئة لمشروعية الصلاة التي لم تشرع بعدُ فهُيئ لها بذكر شرطها "الطهارة" وافتتاحها "التكبير" كما أشار ابن عاشور، وقد جاء الأمر بها قريبا في قوله سبحانه (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا)، وهو تنبيه إلى ضرورة أن تأخذ الصلاة والاستعداد لها حظها وافياً غير منقوص من عناية واهتمام الداعية.
- وأما أسلوب الدعوة فيها فهو (الإيمان قبل الأحكام):
فقد استهلت السورة بعد ذكرها لصفات الداعية بذكر اليوم الآخر (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ)، فليس من الأساليب شيء مؤثر في المدعوين كتذكيرهم بساعة القيام والجنة والنار، لأن هذه تنقر القلوب نقراً، والنقر بطبيعته محصورُ الموضع شديدُ الوقع فيبقى أثره زمناً مديداً خصوصا لمن تعاهد قلبه به ساعة بعد ساعة.
لقد كانت تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضوان الله عليهم في بداية دعوته بالجنة والنار وأهوال القيامة حتى قالت الصديقة رضي الله عنها كما في البخاري "نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا وَلَوْ نَزَلَ لَا تَزْنُوا لَقَالُوا لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ (بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ"
وهذا الوصف منها لبيان أثر المنهج الذي تنزّل به القرآن وأن مخالفته من أعظم ما يكون خطراً على المدعوين، فإن قولها (ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع شرب الخمر) بيان لحال الصحابة مع نهي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالآمر هو الله والمبلغ الرسول والمأمور الأصحاب ثم بعد هذا لو أن منهج التدرج الموافق لتربية القرآن خُولف فرد المدعوين سيكون صريحاً (لا ندع الخمر .. لا ندع الزنا).
فما بالك بجواب غيرهم من بقية الأمة حين يُقال لهم أولاً (لا تشربوا الخمر، لا تزنوا، لا تفعلوا كذا وكذا)؛ الجواب نراه عياناً بياناً في موقف الأمة من أوامر ربها وأوامر رسولها صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا سبب رئيس في ضعف أثر الدعوة على المدعوين ولابد من التفطن له.
وهذه المسألة جليلة كبيرة القدر جداً، قد خفي على كثير من أهل القرآن وجه الصواب فيها، فوقعوا في خلاف منهج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهج أصحابه رضوان الله عليهم.
ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم أصحابه القرآن هو تعليم الإيمان أولاً قبل تعليم الأحكام، وهي داخلة ضمن القاعدة المشهورة عند السلف في التعليم (العالم الرباني: هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره)، وقد جاء في تعليم الإيمان قبل الأحكام آثار مشهورة:
- فعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا.
- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً، وأنتم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان.
¥