- وعنه رضي الله عنه قال: لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها كما تعلمون أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت اليوم رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدرى ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه.
- وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة " متفق عليه.
وهذا المعنى تؤكده سورة الدعوة (المدثر) فمع أن المخاطبين كفار لا يؤمنون بالبعث ولا بالحساب جاءت الآيات فيها مليئة بالتذكير بيوم القيامة والتخويف بالنار: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) .. (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) .. (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) .. (إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ).
ويقع الخطأ الكبير منّا في تربيتنا لمن تحت أيدينا حين نفر من منهج القرآن إلى مناهج حادثة نُكثر فيها من استخدام مصطلحات (مستوردة) زاعمين أن رحى (التربية المؤثرة) تدور عليها، فتارة يُنادى بما يسمى بـ (الإيجابية) وأخرى (التحفيز) وثالثة (الإقناع) وهذه كلها طرائق (حق) لو اكتفت بحيزها اللائق بها، أما أن تُزاحِم أو تُقدَّم على منهج التربية بالوعد والوعيد والجنة والنار والقيامة والساعة والطامة والقارعة والحاقة والزلزلة ... التي امتلأت بها السور المكية فخطأ جارف وضلال يلوح، وويحُ من ترك منهج تربية القرآن واستعاض بغيرها من تجارب البشر طلباً للطُرق (الإيجابية) فيما يزعم، ولو أفاد منهما وجعل ذِه تبعاً لتلك لأحسن وأجمل.
ومن تأمل القرآن علم أن منهج التربية بـ "التذكير" بذكر القيامة والجنة والنار وهو خطاب "قلبي" له القدح المعلى من بين أساليب تربية القرآن، ويليه منهج "التفكير" وهو خطاب "ذهني"، وقد ورد في الأمر بالتفكر قريباً من ألفٍ وثلاثمائة آية في القرآن.
ومن أفصح ما نطقت به الألسنة في توضيح ذلك ما قاله الإمام الرباني الحسن البصري قال: ما زال أَهل العلم يعودون بالتذكر على التفكُّر، وبالتَّفكُّر على التَّذكُّر، ويناطقون القلوب حتى نطقت.
وقد نبهت سورة المدثر أن أعظم سبب لإعراض المدعوين إلى الإيمان ليس هو "عدم التصديق العقلي" ـ وإن كان موجوداً ـ بل هو "العناد والاستكبار" وقد نطقت الآيات بهذا (إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا) (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ)، وعلاج داء كهذا لا يكون بالبرهان العقلي بل بالتخويف القلبي (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ)، وقد كان حاله قبلها ما جاء في ذلك الوصف البليغ (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ)، وتأمل أن الله كرر ذم هذا المعرض على (تقديره) دون (تفكيره) مع أنه ذكر الحالين، وهذا لأنه حال تقديره حال معاندٍ متحيرٍ همته في شيء واحد وهو بأي شيء يَصِم القرآن، وتكرار (ثم) أربع مرات مفصح عن زمن معتبر استغرقه هذا الجاحد في تنقله بين هذه المراتب الأربع، والعبوس يكون مع الغضب وأما البُسور فمع الهمّ والكمد والنكد.
- التحديات والعوائق التي حذرت منها السورة:
نبهت السورة على فتن شاءها الله بحكمته تعترض طريق الداعية والمدعو امتحاناً للناس، وضرب سبحانه مثلا على ذلك بفتنتين:
الأولى: فتنة مال وجاه (شهوة): (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا).
والثانية: فتنة فكر ونظر (شبهة): في قوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً .. )، فهذا العدد القليل (تسعة عشر) فتنة لصنفين من الناس (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) و (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).
¥