تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[من حديث: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"]

ـ[مهاجر]ــــــــ[30 - 04 - 2010, 08:23 ص]ـ

من قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ماء البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"

فذلك من جواب الحكيم، إذ قد سألوا عن صورة من صور الطهارة، وهي الوضوء، فجاء الجواب عاما لكل صور الطهارة، فذلك يخرج الجواب عن حد الضرورة إلى حد العموم المحفوظ، فيصلح ماء البحر لكل صور الطهارة من وضوء واغتسال ..... إلخ، كما أشار إلى ذلك صاحب "نيل الأوطار" رحمه الله، وذيل صلى الله عليه وعلى آله وسلم بحل ميتته، فتلك زيادة في المنة الربانية، فمن البحر غسل طاهر، ومطعوم حلال طيب، فضلا عما فيها من التوكيد على طهورية الماء، فهي جارية مجرى الاحتراس من احتمال قد يرد على الذهن، بأن يخالط الماء ميتة، فيتنجس بمجاورتها، فجاء النص على حل ميتة البحر، وحلها مئنة من طهارتها، فكل حلال طاهر بداهة، ولا عكس، وجاء القصر بتعريف الجزأين مئنة من التوكيد فهو قصر إضافي، فليس قصرا حقيقيا بداهة إذ من الماء ما هو طهور، وإن لم يكن ماء بحر، فمياه الأنهار والأمطار ...... إلخ، كلها طهورة، فالقصر رافع لما يعتمل في نفوسهم من الشك، فقد يقال بأنه قصر قلب من هذا الوجه، إذ قد اعتقدوا عدم صلاحيته للتطهر، فجاء القصر بضد ما اعتقدوا إمعانا في تقرير الحكم، وكذلك الشأن في الشطر الثاني، فهو جار، أيضا، مجرى القصر الإضافي.

وجاء الوصف بالطهورية مبالغة، فمبنى: "فعول" من مباني المبالغة القياسية، فهو طاهر في نفسه لزوما، مطهر لغيره تعديا، وذلك أليق بحال السائل، إذ ليس مراده السؤال عن الطهارة اللازمة، وإنما أراد السؤال عن التطهير المتعدي، فهو محط الفائدة، فحسن الجواب بالصيغة الأعم فهي تشمل المعنى اللازم في نفسه، والمتعدي لغيره، كما تقدم.

ففي الطهورية: زيادة في المنة من وجه، فذلك من قبيل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا"، فوصف الطهورية لما يعلو الأرض، هو وجه الامتنان على هذه الأمة، فلو حمل على المعنى اللازم دون المتعدي ما حصلت به منة، فالتراب طاهر في كل الشرائع، فأي قدر زائد من التيسير تحصل به المنة إن حمل مبنى فعول في هذا السياق على: "فاعل" اللازم، فمادة طهر لازمة، بخلاف مادة: "طهر" بتشديد الهاء فهي متعدية بالتضعيف، كما قرر الصرفيون في مبحث معاني حروف الزيادة.

ومثله قوله تعالى: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا):

فقد حمل بعض أهل الفقه واللغة: معنى طهور في هذا السياق على معنى طاهر، إذ لا حاجة لأهل الجنة إلى الماء الطهور الذي يتطهر به، فلا حدث ولا نجاسة في الجنة، وأجيب بأن المنة لا تحصل إلا بالزيادة في المعنى، فماء الجنة أليق المياه بوصف الطهورية، فتقرير هذا المعنى الزائد جار مجرى ما تقدم من عظم المنة.

وكذلك الحال في قول الشاعر:

عذاب الثنايا ريقهن طهور

فقد حمله بعض أهل اللغة على معنى طاهر، فالريق طاهر في نفسه، لا يتعدى بالتطهير إلى غيره بداهة، وأجيب عن ذلك، أيضا، بأن المبالغة في معرض الثناء، آكد في تقرير المنة، فريق النساء جميعا طاهر، فلو حمل ريق الممدوحات على ذلك ما حصل الثناء الموجب لتفضيلهن على بقية النساء، فكان وصفه بالطهورية أبلغ في الثناء والتفضيل، وإن جرى مجرى المبالغة، فليست طهوريته حقيقية كطهورية التراب في حديث الخصائص، وطهورية الشراب النازل من السماء في نحو قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا).

واستدل من حمل لفظ الطهور في الحديث على الطاهر بأن الصرفيين يجرون صيغة: "فاعل" وصيغة: "فعول" للمادة الواحدة: مجرى واحدا في التعدي واللزوم، فـ: "قاعد" مشتق من الفعل اللازم: "قعد" فلا يكتسب التعدي بمجيئه على صيغة: "فعول": "قعود"، فكذلك: "طاهر" قد اشتق من الفعل اللازم: "طهر"، فهو صفة مشبهة وإن صيغ صوغ اسم الفاعل فلا يشاركه الدلالة المتعدية، وإنما يشاركه فقط في صياغته اللفظية، فلا يتعدى بمجيئه على صيغة: "فعول"، فأصله، كما تقدم، لازم، فالفعل الذي اشتق منه الوصف: لازم، والوصف: لازم وإن جرى مجرى اسم الفاعل من جهة لفظه، كما تقدم، فيكون الاشتقاق التالي الذي جاء على وزان: "فعول" وهو: "طهور" لازما، أيضا، للزوم أصله كما تقدم.

وأجاب من قال بالتعدي بأن ذلك إنما يصح إذا ما كانت الصيغة في هذه الحال معدولة عن صيغة: "فاعل"، فتشاركها اللزوم والتعدي، ولكن الصحيح، كما نقل بعض المحققين كابن مفلح من الحنابلة رحمهم الله، أن "فعول" هنا جارية مجرى أسماء الآلات، فطهور: اسم للآلة التي يتطهر بها، وهي الماء، كما أن سحور: اسم لما يتسحر به، وفطور: اسم لما يفطر به، ووضوء: اسم لما يتوضأ به ..... إلخ.

ومن لطائف الاستدلال بهذه الصيغة ما قرره بعض أهل العلم من دلالتها على طهورية الماء المستعمل فهي دالة على التكرار، فالمبالغة مئنة من ذلك فيحصل التطهر باستعماله أكثر من مرة، فلا يفسد استعماله في طهارة طهوريته فيصيره طاهرا في نفسه غير مطهر لغيره، أو نجسا، كما قد قال بعض أهل العلم، وأجيب، أيضا، بأن ذلك ليس بلازم فالدلالة التكرارية لا تستفاد من صيغة المبالغة في هذا الموضع وإنما يثبت بها فقط: الوصف اللازم بالطهارة، والوصف المتعدي بالتطهير وهو قدر متفق عليه، فإذا استعمل زال وصف التطهير وبقي وصف الطهارة، أو زال كلاهما، وفي نحو: "سحور"، وهو اسم للطعام لا يتصور أن يكون لدلالة التكرار محل، فالمأكول لا يؤكل إلا مرة واحدة فيستهلك بالفعل ولا يبقى فكذلك طهورية الماء تستهلك بالتطهر فيزول وصف التطهير عن الماء كما تقدم.

والله أعلى وأعلم.

ملاحظة: هذه الفائدة مقتبسة من كتاب: "فقه العبادات" للدكتور إبراهيم عبد الرحيم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير