تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

من قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ)

ـ[مهاجر]ــــــــ[08 - 09 - 2010, 12:36 ص]ـ

ومن قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا):

فذلك من القصر الحقيقي بالنظر إلى حال المرسلين عليهم السلام فما منهم من أحد إلا وكان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، على حد المضارعة استحضارا للصورة إمعانا في تقرير بشريتهم، فالرسول بشر كالبشر، وإن أوتي من الخصائص الجسدية الجبلية ما زاد به عن عامة البشر لمكان التكليف بالرسالة فلا يقوى على ذلك إلا من اصطفاه الرب، جل وعلا، فخصه بملكات عقلية وجسدية، والبسطة في العقل والجسد مظنة الرياسة فذلك جواب نبي بني إسرائيل في معرض بعث طالوت برسم الملك، فـ: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)، فأجمل الاصطفاء ثم بين مفرداته من الزيادة في القوة العقلية والقوة الجسدية، ولكن تلك الملكات وإن كانت جبلة في عقول وأبدان المرسلين عليهم السلام إلا أنها ليست سبب الاصطفاء لمقام النبوة، بل هي من تهيئة الرب، جل وعلا، للمحال التي اصطفاها فلم تصل إلى تلك المرتبة برياضة أو خلوة، كما يزعم من يزعم من المخرفين الذين جوزوا اكتساب النبوة، فجعلوها ملكة ترسخ في النفوس بالدربة، فالاصطفاء فضل محض من الرب، جل وعلا، فلا ينال بكسب أو تهذيب أو فتوة، كما ذكر ذلك السفاريني، رحمه الله، في عقيدته المعروفة، بخلاف بقية المناصب التي تنال بالدربة، فالعلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ولا يخلو ذلك، أيضا، من نوع اصطفاء، فإن المحل إن لم يكن زكيا ابتداء لم يقبل ما يرد عليه من آثار التهذيب الشرعي، فالوحي معدن كل تزكية حقيقية للنفوس بنفي خبثها تخلية، وصقل جوهرها بأعمال الشريعة وأخلاق الفضيلة تحلية. ولكن ذلك اصطفاء جزئي بخلق أو ملكة يتصور وقوع الشركة فيها بين عموم البشر بخلاف الاصطفاء لمقام النبوة، فهو اصطفاء كلي بمنصب لا يتصور فيه وقوع الشركة العامة فلا يصطفي الرب، جل وعلا، له إلا آحادا من خلقه.

وهو من قصر القلب في معرض نقض مقالات من غلا في الأنبياء عليهم السلام، والغلو خلق أصيل في النفس، وعامة الخلاف في أمور الديانة إنما يقع من الغلو في الأفاضل سواء أكان ذلك خلافا في أصول الديانة، فذلك أعظم خلاف، وبه يقع التدافع بين أصحاب الملل، كما هي الحال في زماننا وكل زمان، فلا بد أن تظهر آثار حكمة الرب، جل وعلا، في تدافع أصحاب المقالات، فبعض يوحده ويحسن الثناء عليه، وبعض يشرك به بشرا أو حجرا غلوا فيه، وغلو عباد الصليب في المسيح عليه السلام خير شاهد على ذلك، وتعصبهم المقيت الذي نرى كثيرا من صوره في هذه الأعصار في ظل انحسار دولة النبوة جزاء وفاقا لمن قعد عن إظهار الحق، فعلا الباطل ضرورة، فذلك مقتضى سنة التدافع، ذلك الغلو المقيت في بشر قال عن نفسه: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)، وقال عنه ربه جل وعلا: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ)، ذلك الغلو هو سبب ذلك الشرك الذي نقض أصحابه النقل والعقل بل والحس والفطرة جميعا، فلا مستند لمقالة الصلب والتثليث إلا أديان الكهان والرهبان السرية التي لا يحق لأحد الاطلاع على أسرارها فهي حكر على طائفة بعينها تسوم أتباعها خطة الخسف بتسفيه العقول حتى تطمئن بالخرافة التي تنقض قياس العقل نقضا، وليس ذلك بدين المرسلين عليهم السلام الذي جاء بنقل صريح يوافق ما ركب الرب، جل وعلا، في المكلف من عقل صريح، فلا يرضى بهذه المقالة إلا من سفه نفسه، وأما الحر فلا يطيق قيد الخرافة التي تحجر على عقله برسم الخلاص ودخول الملكوت، فلا يرضى الشريف بمرتبة المقلد التابع، فما خلق إلا لينظر ويختار فـ: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)، فلا يختار له غيره برسم الجبر، فليس من أهل: (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ)،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير