من قوله تعالى: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ ... )
ـ[مهاجر]ــــــــ[20 - 04 - 2010, 09:17 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ):
فالفورية مئنة من كمال عنايته بعباده المؤمنين فأنجاه حيث أهلك الكافرين، وقد مكروا مكرا كبارا، فناسب ذلك جمع السيئات، وإضافتها إلى المكر من باب البيان، على وزان: خاتم حديد، أي من جنس الحديد، فتلك سيئات من جنس مكرهم، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وقد يقال بأن ذلك في قوة إضافة الصفة إلى الموصوف على تأويل ذلك بـ: المكر السيء فكان الأليق به من جهة الصناعة النحوية الإفراد لما بين الصفة والموصوف من الموافقة في الإفراد والجمع فيقال: فوقاهم الله سيء ما مكروا، أو: سيء مكرهم، فـ: "ما" مصدرية تؤول مع مدخولها بالمصدر الصريح، ولكن المعنى رجح الجمع في هذا الموضع، إذ مكرهم، كما تقدم، مكر كبير باعتبار قدره، متعدد باعتبار نوعه، فالمصدر يطلق على القليل والكثير، فينزل منزلة اسم الجنس الإفرادي، كالماء والزيت فإنه يطلق على القليل والكثير، وإنما تعرف القلة والكثرة بالوصف لا باللفظ الذي يستوي فيه القليل والكثير فلا تتغير هيئته بخلاف اسم الجنس الجمعي من قبيل بقر وروم فإن مفرده يتميز بالتاء كبقرة أو الياء كرومي، فالمكر منه القليل ومنه الكثير، ومنه الحقير ومنه العظيم، والقرينة السياقية هي التي تعين مراد المتكلم، ومكر فرعون وآله مكر عظيم لما قد علم من مواضع أخر من التنزيل، فقد كاد لموسى عليه السلام وجمع له السحرة، وخرج في إثره .... إلخ، فناسب عظم المكر الزيادة في مبنى السيئة بجمعها فصارت سيئات، فالزيادة في المبنى مئنة من الزيادة في المعنى، كما قرر ذلك البلاغيون، فاغتفر على هذا التخريج عدم المطابقة بين الموصوف والصفة، إذ الموصوف وإن كان مفردا لفظا، إلا أن معناه يحتمل القلة أو الكثرة، كما تقدم، والكثرة في هذا الموضع متعينة فيناسبها الجمع، وتلك من دقائق كلام صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وهو دليل على رجحان المعنى على اللفظ، فالألفاظ ما هي إلا قوالب تصب فيها المعاني فهي مراد المتكلم، فيخرج اللفظ على الوجه الذي يحصل به تمام المعنى، وفي المقابل: أحاط بفرعون وآله سوء العذاب، فذلك، أيضا، من إضافة الصفة إلى الموصوف وقدم وصف السوء إمعانا في النكاية، وقد أجمل العذاب تشويقا إلى بيانه الذي جاء عقيبه فافتتحت به الآية التالية: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ:
فذلك من بدل المطابقة، فيكون ذلك من قبيل التقييد بالبدل فهو المراد ابتداء، وإنما سيق المبدل منه قبله توطئة له، وتشويقا إلى البيان الوافي الذي يحصل به، فضلا عن الإطناب في معرض النكاية إمعانا في مساءة الكافر أو العاصي، وأشار أبو السعود، رحمه الله، إلى وجه آخر تكون فيه: "النار" مرفوعة على الاستئناف، فحذف المبتدأ لدلالة السياق عليه، فهي جواب سؤال قد تولد في الذهن، وما سوء العذاب؟، فجاء الجواب: هو النار، وحذف الضمير على ما اطرد من حذف المبتدأ إن كان ضميرا على وزان:
مستسر الشنء لو يفقدني ******* لبدا منه ذباب فنبع.
أي: هو مستسر الشنء.
فـ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا: فالمضارع مئنة من التجدد والاستمرار على ما اطرد من الإمعان في النكاية، وهو من أصرح الأدلة على إثبات عذاب القبر، فهو نوع من أنواع العذاب الذي يلقاه القوم في دار البرزخ، ولكل دار أحكامها فلا يصح شرعا وعقلا، قياس أحوال دار البرزخ على أحوال دار الدنيا، فذلك من القياس مع الفارق، فضلا عما في الإتيان بالمضارع من استحضار الصورة في مقام الاعتبار وأخذ العظة للمؤمن، والزجر والتهديد للكافر، فلكل خطاب يلائمه، وإن كان القول واحدا فحال المخاطب يعين مراد المخاطِب، وإطنابا في بيان عذابهم المتصل:
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ: ولا يمنع ذلك من اشتراك غيرهم معهم فيه، أو يحمل ذلك على أن لهم أشد العذاب المعد لمن كان كفره من جنس كفرهم، فلكل معصية جنس من العذاب يتفاوت أصحابه فيه فتكون الشدة مقيدة بنوع العذاب لا مطلقة، وإلى طرف من ذلك أشار صاحب "فتح القدير"، رحمه الله، بقوله:
"وأجيب بأن الناس الذين أضيف إليهم أشد، (في نحو: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ")، لا يراد بهم كل نوع بل من يشاركهم في ذلك المعنى المتوعد عليه بالعذاب، ففرعون أشد الناس الزاعمين للإلهية عذابا ومن يقتدى به في ضلالة كفر أشد عذابا ممن يقتدى به في ضلالة بدعة، والإمام الجائر الذي ولايته محيطة أشد عذابا من حاكم بلدة أو قاضيها.
ومن صور صورة تعبد - كما كانت تفعل الجاهلية وكما يفعل النصارى - أشد عذابا ممن صورها لغير ذلك كالزينة. وهكذا ذكره القرطبي وغيره". اهـ
وقرئ بالمقطوعة: ادخلوا، فيكون ذلك من الأمر الذي يفيد الإهانة بقرينة سياق العذاب، على وزان قوله تعالى: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)، مع وقوع زيادة تهكم في الآية الثانية لقرينة: (العزيز الكريم)، فيؤول الكلام في آية غافر إلى: ادخلوا يا آل فرعون، فحذف حرف النداء وقدر بالياء إذ لم يناد بغيرها في التنزيل، كما أشار إلى ذلك صاحب "مغني اللبيب"، رحمه الله، فحمل النداء المقدر عليها أولى من حمله على غيرها فضلا عن دلالتها على نداء البعيد، وهو يفيد التحقير من شأن المنادى إن كان السياق سياق ذم، كما في قول الفرزدق:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ******* إذا جمعتنا يا جرير المجامع
والله أعلى وأعلم.