[" الصورة " في التراث البلاغي ..]
ـ[أنوار]ــــــــ[24 - 11 - 2010, 10:35 م]ـ
طغى مصطلح " الصورة " بمعناه الأعجمي المحدَث على معناه العربي القديم في دراستنا الحديثة، حتى تضاءل هذا المصطلح القديم في بعض الكتابات، وصار خاصًا بألوان البيان.
والواقع أن هذا المصطلح البلاغي له دلالة دقيقة في إطلاقات القدماء. وهو بإيجاز شديد .. ما يدركه المتأمل في المعاني من فوارق دقيقة وشفيفة بين هيآتها وأشكالها، وشياتها، وملامحها. أشياء كثيرة غامضة يفترق بها المعنى في الذهن عن المعنى، وتكون له في النفس بها هيأة لا تكون لغيره، وهذا ما سماه العلماء " الصورة ".
وقد نبَّه البلاغيون إلى أن لفظ الصورة بهذا المعنى مقتَبسٌ من المبصرات على وجه التمثيل والقياس.
وذلك لأن الفروق القائمة بين المرئيات ترجع إلى أحوال في صورها، تفرِّق بها العين بين إنسان وإنسان، وفرس وفرس، وسِوارٍ وسوار ....... إلى آخر ما قالوا.
وتعبير العلماء عن هذه الشِّيات، والنمنمات الدقيقة التي تتمايز بها ضروب المعاني، فيه ما فيها من دقة يحتاج معها إلى فضل نظر، حتى يُستخلص منه المراد. وتراهم يقولون .. هيأة الكلام .. وطبعه .. وسمته ونهجه .. ويريدون حالته التي كان عليها في نفس قائِلِه ومتذوِّقِه.
والجملة في ذلك كالفقرة والخطبة، والبيت كالقطعة والقصيدة .. كلٌ له سمت كسمت الوجوه، ونهج كنهج السُبُل، يعرفه أهل العلم معرفةً لا تلتبس.
وكما أن لكل معنى هيأة وسمتًا في الجملة والبيت والقطعة والقصيدة، صار بالضرورة لكل شعر شاعر هيأة وسمتُ ملامحٍ، يتميّز بها عن غيره ولا يلتبس.
فلكل شاعر نهج يتكون من هيآت معانيه وأحوالها .. مثال ذلك:
قالوا: مرَّ جرير على ذي الرمة وهو ينشد قصيدته:
نَبَتْ عَيْنَاكَ عن طلَلٍ بِحُزْوى ........... عَفَتْهُ الرِّيحُ وامْتَنَحَ القطارا
فقال له جرير: ألا أُنجدكَ بأبيات تزيد فيها؟ قال: نعم.
فقال جرير:
يَعُد الناسبونَ بني تميم ............ بيوت المجدِ أربعة كبارا
يَعدون الرباب وآل تيم ............ وسعدا ثم حنطلة الخيارا
ويذهب بينها المرئيُّ لغوًا .......... كما ألغيت في الدية الحوارا
فوضعها ذو الرمة في قصيدته، ثم مرّ به الفرزدق فسأله عمّا أحدث من الشعر، فأنشده القصيدة، فلمّا بلغ هذه الأبيات، قال الفرزدق: ليس هذا من بحرك، مضيفها أشد لحيين منك.
قال أهل العلم:
فاستدركها بطبعه، وفطن لها بلطف ذهنه، والذي أدركه الفرزدق بطبعه، وفطن له بلطف ذهنه هو الفرق الذي لا يلتبس على مثله بين هيأة، وسمت، وطبع، أو صورة هذه الأبيات وما دخلت فيه.
وقد ذكر أهل العلم أن إدراك البينوية بين صور كلام وكلام لا يعين فقط على تمييز بيت أو بيتين اندسا في شعر شاعر آخر.
وإنما ذكروا أنه لو رمى حاذق بكلمة في شعر شاعر كامرئ القيس، لفطن لها أهل العلم؛ لأنها تدخل في كلامه دخول الغريب، وتُرى فيه مستوحشة، غير متمكنة ولا مأنوسة.
وإدراك ذلك بالنسبة لنا قد يكون ممكنًا، وإن كان طريقه شاقا؛ لأنه يحتاج إلى طول النظر في كلمات الشاعر ومعرفة مذهبه في الاختيار، وهذا شاقٌ ومُلبس. ثم طول النظر في جُمله، وطرائق تركيبها، ونسجها، والمذهب في ذلك متسع جدا، ثم طرائق وصل جُمله، ومدى إتقانه فن دمج بعضها مع بعض، وتولد بعضها من بعض، ثم طرائق وصل فقره، وجمع معانيه. وإدخال أواخر هذه في أوائل تلك، وكيف يحتال بدهاء فنه فيحسن ذلك، حتى يجعل الأول مهادا للثاني، ووطاء له.
ويمكننا بعد ذلك أن نتلمس ملامح هذه الهيئات والصور، وأن نصفها وصفا دقيقا فيه حذر، ودقة، ومعاناة، وحذق .. وسوف يفتح ذلك لنا آفاقًا في بحث لغة كل شاعر من جهات لاتزال مغلقة على كثير من الأسرار، وهذا كله يمكن أن نسميه خصائص لغة الشاعر. التي ينماز بها عن غيره.
.....................................
من كتاب:
دراسة في البلاغة والشعر، للدكتور محمد محمد أبو موسى.
لربما أتممتُ المقال إن يسّر الله.
ـ[السراج]ــــــــ[26 - 11 - 2010, 09:13 م]ـ
ننتظر التتمة أنوار ..
دراسة فريدة.
¥