تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

و: "من" أيضا: تبعيضية، فذلك مما تهدأ به الخواطر، فالنفوس تتعلق بالأموال على وجه يدعوها إلى الشح والإمساك، فتهدئة الخواطر بأخذ بعض المال دون بعض، مع كونه بعضا يسيرا، بشروط معروفة، مما يهون على النفس إخراج البعض المبذول حفظا للبعض المتروك، فالزكاة، عند النظر والتدبر، فريضة تطهر النفوس وتزكيها، كما يأتي في سياق الآية، ووقاية للمال من شؤم إمساك حق الرب، جل وعلا، وحق العباد فيه، ففي الزكاة حق مركب، ففيه جزء شرعي تحصل به تزكية النفس، وجزء وضعي يحفظ رأس المال، ويسد حاجات المجتمع فإن المجتمع إذا حصلت له الكفاية قلت الأطماع في الأموال المكتنزة، فحفظت الأموال بسد الذرائع إلى استلابها، فضلا عن سد حاجات المجموع فلا تضطر الدول إلى فرض الضرائب لسد العجز الحاصل في مصادر الدخل تغطية لاحتياجات الجماعة، فقد عدلت عن الزكاة الواجبة إلى الضرائب المحرمة في جملتها فلا تفرضها إلا الحكومات الجائرة التي عدلت عن الطيب إلى الخبيث.

و: "من" أيضا: لابتداء الغاية فذلك، كما تقدم في مواضع سابقة، من دلالتها المعجمية الأولى، فحصل منها عدة معان مركبة تزيد المعنى بيانا لعدم التعارض بينها، بل لكل وجهه الصحيح الذي يعضد السياق ويثريه.

ونكرت: "صدقة": مئنة من التعظيم باعتبار أثرها في نفس المزكي، وأثرها في ماله بنفي خبثه، وأثرها في الغير بإغنائه، فلها قدر جليل يستحق التنكير تعظيما، وهي من وجه آخر، موطئة لما بعدها من وصف التزكية والتطهير، فهي مؤسسة لمعنى الصدقة، موطئة لغاياتها من تزكية النفوس وتطهير الأموال، وللتنكير وجه آخر، فهو مئنة من التقليل تيسيرا على النفوس وجاء الوصف مضارعا مئنة من التجدد والاستمرار فذلك آكد في تقرير المعنى، ثم عطف على الفعل جزاؤه من صلاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليهم على جهة الأمر ندبا، فلا يجب على الإمام الصلاة على كل مزك، فعطف ذلك على الأمر الواجب مرغب آخر من جملة المرغبات في أداء الواجب، والصلاة في هذا السياق محمولة على حقيقتها اللغوية المعجمية الأولى، فلا تدل على الحقيقة الشرعية المعهودة بداهة، فالمراد هنا هو الدعاء، لقرينة حديث آل أبي أوفى رضي الله عنهم: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى"، فضلا عن تعذر حمل الكلام على الحقيقة الشرعية وإن كانت هي الأصل في نصوص الشريعة كتابا وسنة، فالشرع، كما تقدم في مواضع سابقة، لم ينزل لبيان أحكام اللسان، فتلك ثابتة قبل وروده، وإنما نزل لبيان أحكام التكليف، فاستعمل لسان العرب في الإفصاح عن أحكام الشرع، بتقييد الحقائق اللغوية المطلقة، بجملة من المقيدات الشرعية صيرتها حقائق شرعية معهودة في عبادات مخصوصة بهيئات وأوقات وشرائط ومقادير وأنصبة .... مخصوصة، فالحقائق الشرعية كما اطرد في كلام الأصوليين: حقائق لغوية ورد عليها قيد الشارع، فصارت حقائق شرعية في أحكام التعبد بعد أن كانت حقائق لغوية في أحكام النطق، فعدل عن الأصل في نصوص الشرع لقرينة النص والعقل فإن حديث آل أبي أوفى قد بين المراد من الصلاة، ودلالة العقل تمنع بداهة أن يصلي عليهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ركعات كركعات الصلاة الشرعية المعهودة، فذلك معنى يرده العقل ويمجه الطبع، وعلى ذلك حملت الصلاة في نصوص من قبيل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، و: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)، فلا يعقل بداهة أن الله، عز وجل وملائكته تصلي على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعلى المؤمنين: الصلاة الشرعية المعهودة!.

ثم ذيل بعلة تلك الصلاة: (إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ): على جهة الفصل لما اطرد مرارا من التلازم الوثيق بين العلة والمعلول فبينهما من شبه كمال الاتصال ما يسوغ الفصل فلا وصل بعاطف.

وجاء التصدير بالناسخ المؤكد مئنة من التعليل، فضلا عن دلالته التوكيدية في معرض الحث على بذل الصدقات الواجبة رجاء نيل ذلك الجزاء العظيم، فذلك من جملة البواعث التي تحمل المزكي على بذل صدقته طيبة بها نفسه، فيؤدي الحق الواجب وضعا، وينال الأجر المقرر شرعا، فلم يؤدها برسم الجبر وهو كاره ليسقط عنه الفرض الواجب دون أن ينال ثوابا، بل ربما أثم لما يجده في صدره من قضاء الرب، جل وعلا، الشرعي الحاكم.

فـ: إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ: فنكر السكن تعظيما، فدعاء الصالحين مما تسكن به النفوس وتهدأ فكيف بدعاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم جاء التذييل بوصفي السمع والعلم فذلك مما يلائم الدعاء، فالسمع هنا: محمول على سمع الإجابة، فذلك أبلغ في توكيد المعنى، وهو بدوره، قرينة أخرى ترجح معنى الدعاء، فالدعاء يناسبه السمع على جهة الإحاطة العامة لكافة المسموعات، والدعاء منها، والإجابة الخاصة، فذلك قدر زائد يختص بالدعاء دون بقية المسموعات.

والعلم، أيضا، مما يلائم السياق، من جهة كونه من صفات الإحاطة، فمثله كمثل السمع العام لكافة المسموعات، بل إن السمع لازم من لوازمه فدلالة العلم على السمع: دلالة لزوم، فالعليم لا يكون إلا سميعا بداهة، ولله المثل الأعلى، فوجه التذييل به أن الرب جل وعلا، محيط بما يعتمل في النفوس من النوايا فيعلم هل دفعها المزكي اختيارا أو اضطرارا، إخلاصا أو رياء .... إلخ من الأمور القلبية الباطنة التي لا اطلاع لأحد عليها إلا مصرف القلوب، جل وعلا، فذلك مما يحمل المزكي على تجريد النية وإخلاصها وتحري الدقة في حساب القدر الواجب، فيستشعر بذلك المعية العلمية، فيكون من أصحاب مقام الإحسان والمراقبة للرب، جل علا، مقام: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ).

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير