والدين الباطل إذا جادل عنه المجادل ورام أن يقيم عوده المائل أقام الله تبارك وتعالى من يقدف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق وتبين أن صاحبه الأحمق كاذب مائق". اهـ
"الجواب الصحيح"، (1/ 60_63).
و "أل" في "الأبتر": جنسية استغراقية، واستغراقها مجازي معنوي فكل أوصاف البتر: بتر الذكر ...... إلخ لمبغض النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فالجزاء من جنس العمل، كما تقدم، وهي استغراقية لأعيان القادحين فيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد ورد في أسباب النزول أنها نزلت في أبي لهب أو أبي جهل أو العاص بن وائل، ونزولها على سبب لا يمنع عموم لفظها، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فالعام الوارد على سبب لا يخص بسببه إلا إذا دلت قرينة على ذلك، فهو، كما تقدم، خلاف الأصل، فالأولى حمل اللفظ على عمومه بالنظر إلى معاني البتر وإلى أعيان المبتورين، فيشمل كل بتر ينال من نال من عرض النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويشمل كل قادح فهو متوعد بذلك، وإن اشتهر أمره حينا، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في "الصارم المسلول":
"والقصة في إهلاك الله واحدا واحدا من هؤلاء المستهزئين، (المذكورين في قوله تعالى: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ")، معروفة قد ذكرها أهل السير والتفسير وهم على ما قيل نفر من رؤوس قريش منهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسودان ابن المطلب وابن عبد يغوث والحارث بن قيس.
وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وكلاهما لم يسلم لكن قيصر أكرم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وأكرم رسوله فثبت ملكه فيقال: إن الملك باق في ذريته إلى اليوم وكسرى مزق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله الله بعد قليل ومزق ملكه كل ممزق ولم يبق للأكاسرة ملك.
وهذا والله أعلم تحقيق لقوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} فكل من شنأه أو أبغضه وعاداه فإن الله يقطع دابره ويمحق عينه وأثره وقد قيل: إنها نزلت في العاص بن وائل أو في عقبة بن أبي معيط أو في كعب بن الأشرف وقد رأيت صنيع الله بهم.
ومن الكلام السائر "لحوم العلماء مسمومة" فكيف بلحوم الأنبياء عليهم السلام؟ ". اهـ بتصرف
وقد جعله صاحب التحرير والتنوير، رحمه الله، من قصر القلب، فذلك آكد في النكاية بالقادح، فتقدير الكلام: لا مبتور إلا أنت، لا من زعمت بتر ذكره بانقطاع نسله فقد أبقى الله، عز وجل ذكره، وحفظ رسالته، فهي حديث الساعة، كما يقال، إلى يوم الناس هذا، وإلى أن يرفع ذكر الرب، جل وعلا، من الأرض، فتقوم الساعة على شرار الخلق ممن انقطع ذكر النبوة فيهم.
وقد استدل بعض أهل العلم بهذه الآية على وجوب قتل من سب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهو مرتد، تعمد ذلك أو لم يتعمد، جادا كان أو هازلا، مستحلا كان أو غير مستحل، فلا عذر في ذلك إلا بالإكراه الملجئ، كما في واقعة عمار، رضي الله عنه، لعموم قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ)، وذلك إجماع لا يعارضه إلا من لا علم له بمواضع الإجماع في الشريعة الخاتمة، فلا تقبل توبة الساب، بل يقتل ردة إن لم يظهر التوبة، فإن أظهرها قتل حدا، وأمره إلى الله، عز وجل، صيانة لعرض النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فذلك من البتر لذكر من سبه، فهو مظنة الزندقة، فلو ترك بلا قصاص لتجرأ الزنادقة على سبه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإذا أخذوا ليقتلوا، أظهروا التوبة رياء، فبقي ذكرهم، وإلى طرف من ذلك أشار ابن تيمية، رحمه الله، في "الصارم المسلول" بقوله:
"إنه سبحانه وتعالى قال: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} فأخبر سبحانه أن شانئه هو الأبتر والبتر: القطع يقال: بتر يبتر بترا وسيف بتار إذا كان قاطعا ماضيا ومنه في الاشتقاق الأكبر تبره تتبيرا إذا أهلكه والتبار: الهلاك والخسران وبين سبحانه أنه هو الأبتر بصيغة الحصر والتوكيد لأنهم قالوا: إن محمدا ينقطع ذكره لأنه لا ولد له فبين الله أن الذي يشنأه هو الأبتر لا هو والشنآن منه ما هو باطن في القلب لم يظهر ومنه ما يظهر على اللسان وهو أعظم الشنآن وأشده وكل جرم استحق فاعله عقوبة من الله إذا أظهر ذلك الجرم عندنا وجب أن نعاقبه ونقيم عليه حد الله فيجب أن نبتر من أظهر شنآنه وأبدى عداوته وإذا كان ذلك واجبا وجب قتله وإن أظهر التوبة بعد القدرة وإلا لما انبتر له شانئ بأيدينا في غالب الأمر لأنه لا يشاء شانئ أن يظهر شنآنه ثم يظهر المتاب بعد رؤية السيف إلا فعل فإن ذلك سهل على من يخاف السيف". اهـ
وذلك حكم الشرع المعطل، إلا ما شاء الله، فلا إمام في معظم بلاد المسلمين يقيم للديانة وزنا إلا رسوما زائفة، فالقدح في ذاته، وإن كان سيئ السيرة، أشد على نفسه من القدح في النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فعدم، تقريبا، من يقيم هذا الحد من معظم أمصار المسلمين فلا يستقل بإقامته آحاد المكلفين لئلا تقع الفتن وتعم الفوضى في ديار المسلمين، فإن عطل حكم الشرع في هذا الأمر، فحكم القدر نافذ، فسنة الرب، جل وعلا، في مبغض نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: بتر الذكر كما تقدم، فإن لم يبتر بأمره الشرعي الحاكم بقعود من له الولاية العامة عن إنفاذه، فهو مبتور بالأمر الكوني النافذ.
والله أعلى وأعلم.