تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

المكلف جهله من أصول العقائد والشرائع، كما أشار إلى ذلك المحققون من أهل العلم كشارح الطحاوية، رحمه الله، ومع كونه كفائيا من هذا الوجه إلا أنه عيني بالنظر إلى القدر المشترك من الإيمان والعلم الضروري بين العلماء وآحاد المكلفين، فعلى كل البلاغ بقدر ما أوتي، فالأمر في: "بلغوا عني ولو آية": عام لا مخصص له، فمن مبلغ بآية، ومن مبلغ بآيات، ومن عالم بحكم إلى عالم بكليات الشريعة، فتتفاوت أقدار المكلفين بتفاوت سعة وديان القلوب التي تسيل علما وعملا بقدرها، فالأمر له صلى الله عليه وعلى آله وسلم خاصة، ولكل أتباع رسالته عامة، لقرينة عالمية الرسالة فذلك يعم صاحبها، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن جاء بعده من أمة الإجابة إلى قيام الساعة.

وجاء المفعول منسوبا إلى الرب، جل وعلا، فـ: (نَبِّئْ عِبَادِي)، فذلك من إضافة المخلوق إلى خالقه في سياق الترغيب، فظهرت عنايته به مع غناه عنه، فبشره على لسان خاتم رسله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمغفرة، فذلك شطر الكمال فهو وصف الجمال بستر العيوب ورحمة العابدين رحمة خاصة لا تكون إلا لخاصة البشر من المؤمنين، وإنما قدم وصف الجمال على وصف الجلال، لأن رحمته، جل وعلا، سبقت غضبه، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فالنسبة هنا: نسبة خاصة للعابدين، فليس ثم مغفرة ورحمة إلا لهم، وقد يقال بأن العبودية هنا عامة من جهة عموم خطاب الوحي، وإن أريد به المؤمنون ابتداء، فلا يمنع ذلك من دخول غيرهم معهم فيه، فهو المعنيون أصالة، وغيرهم لهم تبع، فيكون العموم على بابه، محفوظا، لما تقدم من قرينة عالمية الرسالة، فالمغفرة والرحمة مما يرغب به الكافر ليؤمن، فيعمه الخطاب من هذا الوجه، وإن لم يكن أهلا لهما حال كفره، لقيام المانع في حقه، وجاء النبأ مؤكدا بجملة من المؤكدات اللفظية التي تلائم سياق الترغيب ففيه نوع حث على سلوك الجادة، فأكد بالناسخ واسمية الجملة فهي مئنة من ثبوت الوصف، فالله، عز وجل، هو الغفور الرحيم أزلا وأبدا، فذلك جار على ما تقدم من أوليته وآخريته المطلقة بوصف كماله جمالا وجلالا، فضلا عن تعريف الجزأين فتقدير الكلام قبل دخول الناسخ والفصل بضمير المتكلم: "أنا"، تقديره: أنا الغفور الرحيم، فهو مئنة من الاختصاص، فهو الغافر فلا يغفر الذنب غيره، وهو الرحيم لا يرحم المؤمنين غيره، فدلالة القصر: ثبوتية مذكورة، سلبية محذوفة لدلالة الإثبات على النفي مفهوما لازما، فذلك من أوجه البلاغة في القصر كما أشار إلى ذلك المحققون من أهل البلاغة، ومع كل ما تقدم، جاء ضمير الفصل ليزيد المعنى توكيدا.

وفي المقابل وعلى جهة المقابلة بين وصف الجمال ووصف الجلال كما تقدم جاء الاحتراس بذكر الشطر الثاني من شطري الكمال:

وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ: فلم ينسب الوصف إليه مباشرة كما نسبه إليه، جل وعلا، في مقام المغفرة والرحمة، فذلك من عظيم منته وكمال وصفه، جل وعلا، فمعنى التعذيب ليس كمالا مطلقا من كل وجه كالمغفرة والرحمة، فلا ينسب إلى الرب، جل وعلا، إلا على جهة الفعل مقيدا بوجه الكمال منه فهو المعذب لمن استحق العذاب من أهل الكفر والعصيان، أو ينسب العذاب إليه نسبة المخلوق إلى خالقه بالنظر إلى عين العذاب الذي يلحق صاحبَه آثرُه، فذلك من قبيل نسبة الرحمة إلى الرب، جل وعلا، فهي تحتمل الفعل، كما في هذه الآية، وتحتمل المفعول المخلوق كما في حديث محاجة الجنة والنار: "قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ أَنْتِ رَحْمَتي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي"، فمقابله: "وَقَالَ لِلنَّارِ إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابٌ أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي"، فالجهة في كليهما واحدة وهي جهة الخلق لا الفعل.

فنسب العذاب إليه، جل وعلا، لا على الجهة التصريح لما تقدم من الاحتراس من نسبة ما قد يحتمل نقصا، ولو من وجه لله، عز وجل، فذلك من قبيل قول الخليل عليه السلام: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)، فلم ينسب المرض إليه، جل وعلا، تأدبا، وإن كان المرض من خلقه فهو المُمْرٍض لمن شاء ابتلاء أو عقابا، ونسب فعل الخير المحض إليه، جل وعلا، فهو الشافي لا شفاء إلا شفاؤه.

وجاء التوكيد هنا أيضا بجملة من المؤكدات تضارع المؤكدات في الآية الأولى، فأكد بالناسخ المؤكد: "أن"، وتعريف الجزأين، واسمية الجملة وضمير الفصل: "هو"، فلا عذاب يؤلم على جهة الحقيقة إلا عذابه، فكل عذاب دونه، وإن عظمت آلامه، لا يعدل شيئا بالنظر إلى عذابه، فالقصر من هذا الوجه حقيقي لتفرد عذابه بالدرجة العظمى من وصف الإيلام، وذلك أبلغ ما يكون من الوعيد، وهو إضافي بالنظر إلى مشاركة سائر أجناس العذاب له في وصف الإيلام مع تفاوتها في القدر، فالمعنى في كلها حاصل، وإن تفرد عذابه، جل وعلا، كما تقدم، بالدرجة العظمى، فكأنه لا عذاب مؤلم إلا عذابه.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير