فلا يحق لأحد بعد هذا أن يضرب أحد قوليه بالآخر، أو يقدم قوله:"و لم يقل ... " على هذا الذي نقلنا لك من "الإقتضاء" لأنه لا يوجد أي دليل على تقديم أحدهما على الآخر؛ إلا أن ما جاء في "الإقتضاء" هو الأقرب إلى مذهبه في هذه المسألة كما هو معلوم عند من خبر علمه أو مارس مؤلفاته؛ و لقد ذكر هذا الحديث في "الفتاوى الكبرى" (3/ 124 - الدليل على إبطال التحليل) فقال: "رواه النسائي باسناد صحيح، و زاد: فكل بدعة في النار (هكذا في المطبوع و لعله تصحيف) "، و استدل على صحة هذه الزيادة بعمل الصحابة بها فقال:" و كان عمر رضي الله عنه يخطب بهده الخطبة. و عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا و مرفوعا أنه كان يقول .. " فذكره إلى أن قال:" فكل محدثة ضلالة و كل ضلالة في النار" ثم أضاف:
"و هذا مشهور عن ابن مسعود و كان يخطب به كل خميس كما كان النبي صلى الله عليه و سلم يخطب به في الجمع".
فهذا الذي ذكره شيخ الإسلام عن الصحابة من أن هذه اللفظة ? و كل ضلالة في النار ? كانت تقال على المنابر، مع ما نقلنا لك من "الإقتضاء"، هو ما يوجه به كلامه السابق الذي تمسك به الشيخ عمرو حين قال:" و معناها أيضا غير صحيح كما في مجموع الفتاوى".
و هي كذلك من الشواهد التي يمكن إيرادها لتقوية هذه الزيادة و إثبات صحتها:
أما أثر عمر فقد أخرجه ابن وضاح في "البدع و النهي عنها" (ص24) من طريق عبد الله بن عكيم عن عمر أنه كان يقول:"أصدق القيل قيل الله و أحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم و كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار".و إسنادها صحيح،إلا أنه قوله –في الإسناد-"هلال الوراق" تصحيف أو خطأ مطبعي،صوابه هلال الوزان وهوابن أبي حميد الصيرفي ثقة من رجال الشيخين.
و أما أثر ابن مسعود فقد ذكر البخاري في "الصحيح" (كتاب العلم-باب من جعل لأهل العلم أياما معلومة) عن أبي وائل قال:" كان عبد الله يذكر الناس كل خميس" و لم يذكر خطبة الحاجة. و هي عند ابن وضاح في "البدع" (ص24) عن رباح النخعي و يحيى بن عقيل عنه. و رواه ابن الأعرابي في "المعجم" (2/ 568 - 569) مرفوعابلفظ:"كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار"؛لكن الراجح من كلام أهل العلم أن الموقوف أصح و أرجح.
و لما ذكر البيهقي في "الأسماء و الصفات" (ص246) قول ابن مسعود:"إنما هما اثنتان ........ إلى قوله: و كل ضلالة في النار"قال:"وهذا من قول ابن مسعود رضي الله عنه و الظاهر أنه أخذه من النبي صلى الله عليه و سلم"
ثم اعلم أنه قد صحح هذه الزيادة في حديث جابر هذا جماعة من أهل العلم؛منهم من صرح بذلك كأبي نعيم في "الحلية" (3/ 189) قال:"هذا حديث صحيح ثابت من حديث محمد بن علي رواه وكيع و غيره عن الثوري"،و البيهقي في "الإعتقاد" (ص127) قال:"روينا في الحديث الثابت " ثم ذكر حديث جابر بالزيادة المذكورة. و منهم من صححها شارحا أو مستشهدا كابن تيمية والذهبي و ابن كثير وابن القيم و ابن حجر و السيوطي و الشوكاني. و غيرهم؛ بل منهم من تأولها كالصنعاني و السندي قالا:"أي صاحبها في النار"؛ و صححها من علماء هذا العصر: ابن باز و الألباني وبن عثيمين رحمهم الله.
و لما انتهيت من كتابة هذه السطور، وقفت على تضعيف لهذه الزيادة في ثلاثة مصادر أخرى غير ما كتبه عمرو عبد اللطيف؛
الأول: كتاب بعنوان: "مجموع فيه مؤلفات لشيخ الإسلام ابن تيمية " يحوي مجموعة رسائل له؛ تحقيق و تعليق "ابراهيم بن شريف الميلي"؛ فوجدت المحقق المذكور يذهب هو الآخر إلى تضعيف هذه الزيادة بنفس أسلوب و استدلال الشيخ عمرو، بل و يعلها بنفس العلة. قال (ص322 - تعليق): " و قد فصلت القول في بيان شذوذ هذه الجملة في "بلغة الحثيث" أعان الله على طباعته".
فأقول: إذا كان تفصيله في كتابه المشار إليه يعتمد على تحقيق الشيخ عمرو فقد بينا لك ما فيه بما فيه الكفاية؛ و إن كان غير ذلك فينظر.
الثاني:"توضيح الأحكام من بلوغ المرام" لعبد الله البسام-رحمه الله-،قال في تضعيف هذه الزيادة:"ففي سندها جعفر بن محمد الهاشمي وهوضعيف و أخذ الحديث وجادة"، كذا قال، و هو من أغرب ما وقفت عليه، لأن مدار حديث جابر هذا،بالزيادة و بدونها، إنما يدور حول جعفر هذا، و هو بهذا يضعف طريق مسلم التي شرحها بدون الزيادة من حيث لا يدري؛أما جعفر بن محمد فقد قال الحافظ:"صدوق فقيه إمام" ووثقه ابن معين و يحيى و أبو حاتم وزاد "لايسأل عن مثله"؛و أما الوجادة فقد أجاب عنها الحافظ في "التهذيب" بكلام وجيه فارجع إليه إن شئت؛ثم هي من طرق التحمل المقبولة كما هو مفصل في كتب المصطلح.
الثالث: "صفة خطبة النبي-صلى الله عليه وسلم-" لعمرو عبد المنعم سليم، قال فيه (ص17):"وزاد النسائي في رواية "وكل ضلالة في النار"و هي زيادة شاذة من هذه الطريق و الحمل فيها على شيخ النسائي عتبة بن عبد الله ... " كذا قال .. و أظنه قد اطلع على كلام الشيخ عبد اللطيف فاستحسنه ولكنه لم يجرؤ على تحميل عبد الله بن المبارك عبء المخالفة و ألزقها بشيخ النسائي؛و هو عتبة بن عبد الله بن عتبة اليحمدي "صدوق" كما قال الحافظ، و قال النسائي:"لا بأس به".ثم إنه لم ينفرد بهذه الزيادة عن ابن المبارق، فقد تابعه حبان بن موسى و هو ثقة من رجال الشيخين. و قد صحح عمرو عبد المنعم هذه الزيادة في حديث جابر في تعليقه على "القدر" للفريابي.
و في هذا القدر كفاية،و الله من وراء القصد و هو يهدي السبيل؛ و الحمد لله رب العالمين.
كتبه: بن يوسف العمري
في 23 محرم 1430 هـ.
¥