ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[16 - 06 - 07, 09:39 ص]ـ
لنحاول الآن أن نمحص عن كثب أسس هذا العلم وقد أريد به و له أن يفسر القرآن الذي لا يأتيه الباطل ... ثم نحكم بعدها إن كان يستحق فعلا أن تناط به وظيفة الكشف عن مراد الله تعالى ...
إن الطابع التقريبي للعلم نتيجة انتهى إليها برتراند راسل وغيره بعد تمحيص دقيق للمنهج العلمي ... ومعلوم أن المنهج العلمي ينهض على قاعدتين:
-قاعدة الاستقراء.
-قاعدة الاستنباط.
وسنعرض هنا- أولا -النقد القاسي الذي وجهه راسل-وغيره من الفلاسفة- للتوجه الاستقرائي، وبوسعنا أن تصور شدة وقع هذا النقد على علماء الطبيعة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن المجد الذي حققه العلم الحديث إنما كان على أسس الاستقراء التي دشنها أنجليزي آخر هو فرنسيس ببيكون.
قال راسل:
"إن كل القوانين العلمية تقوم على الاستقراء. ولو نظرنا إلى الاستقراء من حيث هو عملية منطقية، لوجدناه عرضة للشك، وعاجزا عن اعطاء نتائج يقينية .... "
ويجمل في مكان آخر مظاهر ضعف العلم وقصوره في ثلاثة بنود:
-الشك في صحة الاستقراء.
-الشك في صحة القياس: فليس من السهل الانتقال من الشاهد إلى الغائب.
-على فرض صحة القياس وإمكان تصور هذا الغائب فإن المعرفة المكتسبة من هذه الجهة تكون ضحلة جدا.
وقبل توضيح مقاصد راسل يجدر بنا أن نوضح ابتداء معنى الاستقراء.
فما الاستقراء؟
يعتقد بادي الرأي أن المنهجية العلمية هي المنهجية التجريبية التي تنص على أسبقية الملاحظة على النظرية ... فالعالم ينطلق من ملاحظة لظاهرة طبيعية ثم يصوغ فرضية ملائمة لتفسير ذلك الملحوظ ثم يشرع في تمحيص الفرضية بواسطة مجموعة من التجارب في ظروف وشروط متنوعة ... ثم ينتهي به الأمر إلى صياغة نظرية أو قانون عام يفسر به تلك الظاهرة مطلقا.
النزعة الاستقرائية تزعم أنه لا يمكن- ولا ينبغي- تأسيس معارفنا إلا على أساس من الملاحظة التجريبية، من غير فكرة مسبقة عن الواقع.
هب سمعنا صفير القطار على الساعة السابعة صباحا ..
هذه ملاحظة تجريبية مفردة،لكن الاستقرائي يرى أنه من الممكن تعميم منطوق هذه الملاحظة ليصل الأمر إلى قانون كلي صالح لكل الظروف ... لكن هذا التعميم ينبغي أن يذعن لمجموعة من الشروط أهمها ثلاثة:
الشرط الأول:
ينبغي أن يكون عدد منطوقات الملاحظة مرتفعا .. فلا يجوز أن نقرر مثلا أن الشمس يحجبها الغيم كل يوم بعد العصر لأننا شاهدناها كذلك اليوم .. ولكن لو تكرر ذلك لأسابيع كثيرة جاز لنا التعميم ...
الشرط الثاني:
على منطوقات الملاحظة أن تكون متجانسة ومناسبة للقانون العام المفترض. ففي مثالنا السابق لا يحق للإستقرائي تعميم أي شيء بسبب كون الشمس لم تحتجب يوم الجمعة مثلا.
الشرط الثالث:
على المنطوقات أن تصدر عن ملاحظات تمت في شروط وظروف مختلفة .. في مثالنا السابق ينبغي ملاحظة احتجاب الشمس مثلا في الربيع والشتاء وفي خط الاستواء وجنوب أروبا الخ ...
وعلى فرض تحقق هذه الشروط بصورة مرضية-وسنرى أن ذلك غير ممكن فعلا-فإن الاستقراء يبقى بعيدا جدا عن اليقين أو حتى ما يقاربه ...
وأقصى ما يمكن أن يحتج به الاستقرائي هو أن يقول:لقد جربنا الاستقراء مرات عديدة وكانت النتائج حسنة ...
لكن هذه الحجة داحضة عند خصوم الاستقراء لأنها، باختصار، مصادرة على المطلوب:
فلم يفعل الاستقرائي في استدلاله شيئا سوى أنه استدل على الاستقراء بالاستقراء .. فهو الخصم والحكم معا ...
فكأنه قال:
"-الاستقراء كان مجديا في الحالة1
-الاستقراء كان مجديا في الحالة2
-الاستقراء كان مجديا في الحالة3
الخلاصة إن الاستقراء يكون دائما مجديا ... "
أليس هذا هو الاستقراء عينه، فكيف يستدل على نفسه بنفسه!!
ثم لو نظرنا في الشرط الأول –وهو ضروري لأنه لا يعقل أن يستخلص الاستقرائي قانونا عاما من ملاحظة حالة أو حالتين-لوجدناه يفتقر إلى الوضوح ولا يؤدي إلى اليقين المطلوب .. ولتفنيد هذا الشرط يسوق راسل هذه القصة –وقد تصرفنا فيها قليلا لتتلاءم مع مجالنا التداولي-
"اشترى رجل كبشا في شعبان وأدخله إلى الحظيرة مع حيوانات داجنة أخرى ... ولنفرض الآن أن هذا الكبش يتمتع بشيء من الذكاء وهو مع ذلك من أنصار المنهج الاستقرائي ..
¥