لاحظ الكبش في اليوم الأول لنزوله في الحظيرة أن الطعام قدم للحيوانات على الساعة التاسعة صباحا ... وسجل هذه الملاحظة في أوراقه ... وقال في نفسه لعل الفطور يقدم هنا دائما في هذا الوقت ... ولما كان حصيفا في منهجه فقد رأى أنه لا بد من الانتظار وتسجيل مزيد من الملاحظات ..
وفي الغد جاءهم الافطار في التاسعة صباحا أيضا.
واستمر الوضع على هذا النحو طيلة شهر شعبان ... لكن الكبش رأى أن يتريث قليلا قبل إن يصدر قانونه الكلي ... فالناس مقبلون على شهر رمضان وعاداتهم تتغير كثيرا فيه ...
لكن الافطار –حتى في رمضان-ظل يأتي إلى الحضيرة في التاسعة صباحا.
ومع ذلك لم يتعجل الكبش ... وفضل أن يواصل تسجيل ملاحظاته مرجئا صياغة القانون إلى ما بعد.
ثم انصرم شوال .... ولم يتخلف فيه الفطور عن التاسعة.
وكذلك ذو القعدة ...
ثم دخل ذو الحجة ... والفطور ثابت في موعده.
ورأى الكبش أنه لا فائدة من الانتظار ... فقد تغيرت الظروف والأحوال وموعد الفطور قار دائما ... وهكذا قرر في ليلة العاشر من ذي الحجة أن يصوغ قانونه الكلي ... فأعلن بكل ثقة للحيوانات المجاورة أنه غدا على الساعة التاسعة صباحا سيتناول فطوره.
وفي الساعة التاسعة من صباح عاشر ذي الحجة قطعت رأسه!! "
هذا هو قصور الاستقراء.
فآلاف الملاحظات المتسقة والمتجانسة لا تخول التنبؤ بالحالة الموالية.
فلو رصدنا عشرين ألفا من البجع الأبيض فلن يكون عندنا أي مسوغ منطقي لكي نقرر أن البجعة التالية ستكون بيضاء أيضا ...
ثم ماذا يقال عن الكبش الذي ضحي به يوم العيد؟ هل القانون الكلي"كل كبش قطعت رأسه يموت" يستفاد من ملاحظة حالة واحدة أم من ملاحظات عديدة؟ وكم من كبش ينبغي قطع رأسه لنتيقن من ذلك القانون.
ثم أليس الطفل الآدمي الصغير يدرك أن النار تحرق يده بتجربة واحدة أو تجربتين؟
باختصار إن شروط الاستقراء لا تنضبط فتارة لا تنفع الاعداد على ضخامتها وتارة يكتفى بأقل عدد ...
وليس الشرط الثالث بأسعد حظا من الأول:
فالتنصيص على ضرورة التجريب في ظروف مختلفة يطرح إشكالات تتعلق بهذه الظروف نفسها. فكيف يتم التمييز بين العوامل الملائمة وغيرها؟ وهل يمكن استيعاب العلل المؤثرة كليا؟ فبياض هذه البجعة قد يكون بسبب الجنس أو السن أو القرب من البحيرة أو أشعة الشمس أو الغيوم البيضاء .... فماذا يعتبر المعتبر وماذا يقصي؟
لهذه الأسباب هجر العلماء هذه المنهجية الاستقرائية الساذجة ... فما عاد أحد يدافع عنها.
ولم يبق في أيدي العلماء إلا النهج الآخر وهو الانطلاق من النماذج الافتراضية ... على قاعدة:النظرية سابقة على الملاحظة. وهو محور حديثنا القادم بحول الله.
ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[21 - 06 - 07, 09:01 م]ـ
تخلى جل العلماء عن النهج الاستقرائي بسبب عقمه وعدم قدرته على التنبؤ أو فتح آفاق جديدة للبحث .. فأقصى ما يطمح إليه الإستقرائي هو تفسير الملاحظة بقانون مفترض وتأكيد هذا القانون بمزيد من الملاحظات والتجارب ... ولن تكون النتيجة شيئا مختلفا عن الملحوظ.
هذا فضلا عن عدم وجود ملاحظة مجردة أي غير مسبوقة بخلفية ما- كما يدعيه أهل الاستقراء .. -وقد أثبت فقهاء العلم أن كل ملاحظة تفترض نظرية سابقة عليها وهذا المعنى يقوض المنهج الإستقرائي من أساسه، ويفترض الحق في ضده تماما:فالمنهج الإستقرائي يرى النظرية هي خاتمة المطاف ... وخصومه يقولون بالعكس ..
قال ألان شالمرز:
"تتضمن وجهة نظر صاحب النزعة الاستقرائية الساذجة فرضيتين هامتين حول الملاحظة. الفرضية الأولى هي أن العلم يبدأ بالملاحظة، والثانية هي أن الملاحظة تقدم قاعدة متينة انطلاقا منها يمكن أن تستمد المعرفة. وسنقدم هنا انتقادات شتى بخصوص هاتين الفرضيتين وندلي بأسباب عديدة تدعو إلى رفضها .... "
[تقييده للنزعة الاستقرائية بوصف السذاجة ليس حكما قيميا، ولكن للتمييز، لأن الاستقراء عند أهله ينقسم إلى ثلاثة أنواع: استقراء ساذج، واستقراء احتمالي، واستقراء متطور ... وفيها جميعا العيوب ذاتها مع تفاوت في الدرجة.]
¥