تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

هذا التفضيل، بدون سبب ظاهر، سيفضي إلى قياس خاطيء- وقاتل إن لم يعتبر فيه مقصد الإبتلاء-قال الرجل:

وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً {36}

اجتمع في العبارة ثلاث مؤكدات: القسم، اللام، النون.

فمن أين جاء الرجل بكل هذا الجزم؟

لم يخطر ببال الغني معنى الابتلاء فقاس حال الآخرة على حال الدنيا ... فتوهم أنه إذا كان قد أعطي جنتان اليوم فلا شك أن الله قد رأى فيه ما يقتضي الإكرام والتفضيل ... فلا بد من استصحاب القاعدة واطرادها عاجلا وآجلا:

إذا كانت الآخرة خيرا من الأولى فليكن نصيبه هناك خيرا من نصيبه هنا!!

ثالثا:

وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً {32} كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً {33} وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ..

اعتبار توزيع الضمائروالفاعلين في هذه الآيات يكشف عن سر بياني بديع:

-ليس للرجل صاحب الجنتين أي "فعل".

-الأفعال كلها لله تعالى-بضمير التعظيم- أو للأسباب العادية.

فمن النوع الأول ثلاثة: "جعلنا"،"حففنا"،"فجرنا" وهي أفعال لله الخالق المنشيء.

ومن النوع الثاني اثنان:"آتت"،"لم تظلم"وهما فعلان يفيدان المطاوعة والاستجابة.

أما الرجل فهو عاطل عن العمل، فليس له أدنى مجهود مذكور لاستحقاق الملكية أوبعضها.

والطريف أن في الآيات السابقة ضميرين عائدين على الرجل:

ضمير في البداية:"أحدهما"

ضمير في النهاية: وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ.

فكأن البيان القرآني المعجز أحضر الرجل في البداية عند "تسلم" الجنتين وانعقاد الملكية .. وأحضره ثانية في النهاية عند تسلم الناتج والغلات،ومابين اللحظتين لا عناء ولا حرث ولا سقي ولا شقاء ...

فلم لا يكون الرجل"مدللا"!!!

رابعا:

رأينا أن وصف الجنتين عمد إلى إظهار معنى"الاستمرارية " و "البقاء":

-فالناتج من الأرض عنبا وتمرا يقبل التخزين وفي ذلك تجاوز للفصول والمواسم.

-وأسباب استمرار الناتج قائمة في الجنة ومتوفرة فيها ومستقلة بها كما يراها الرجل متجسدة في النهر المتفجر، فلا خوف من تقلبات المناخ وعاديات الظروف.

هذا الإحساس بالأمن والاستقلال خطير جدا ...

فقد نشأ عنه خط فكري منحرف أفضى بصاحبه إلى الهلاك:

-هذه الجنة لن تبيد بفضل توفر أسباب الحياة ..

-ولما كانت هذه الجنة جزءا من الحياة الدنيا فقد سرى حكم الجزء إلى الكل: فالدنيا مستمرة، إذن فلا آخرة.

قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً {35} وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً.

لكن هذا التمرين الفلسفي الذهني لا يقاوم المعيش الواقعي:

فهب الدنيا لا تبيد .. فماذا عن نفسه هو، أهو أيضاخالد في جنته؟

هو قطعا سيموت .. فما السبيل لمنع الحسرة والقلق؟

يعود مرة أخرى للتمرين الذهني:

هو ميت .... فلا بد من افتراض حياة أخرى -للنجاة من العدم-.

ولا بد من استئناف السعادة هناك على أعلى مستوى –مستوى الخلود.

"وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً"

وهكذا أمن الرجل نفسه على كل تقدير!!

ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[07 - 07 - 07, 07:27 ص]ـ

وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً {32} كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً {33} وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ.

هذا الوصف من بديع بلاغة القرآن: يضع أمامنا مثالا معجزا لاجتماع أسلوبي الإطناب والإيجاز ...

فعندما وصف نشأة الجنتين أسهب واسترسل وفصل:

-جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ

-وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ

-وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً

- كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا.

- وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً.

- وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً.

- وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ.

سبع جمل ... كذلك الحياة تنشأ شيئا فشيئا .. وتنمو جزءا فجزءا .. وتحتاج إلى رعاية وتربية وتدبير.

لكن الموت يأتي كلمح بالبصر ليضرب ضربة واحدة ...

وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ.

جملة واحدة ... واحدة فقط ... لكنها كافية للإتيان على كل ما سبق. فالجنين يحتاج إلى بضعة شهور ليتكون في الرحم بإذن الله ... لكن لا يحتاج إلا لأقل من ثانية ليموت بأمر الله.!!

فانظر كبف عبر توزيع الجمل عن حظ الحياة وحظ الموت.

ثم لاحظ كبف بني فعل" أحيط" لما لم يسم فاعله عكس الأفعال السابقة .. إشعارا بالخفاء والغموض والبغتة ...

قاتل الله أبا الطيب ما أشعره عندما يقول:

وما الموت إلا سارقٌ دقّ شخصه ... يصول بلا كفٍ ويسعى بلا رجل

ثم لاحظ كيف أن فعل الإحاطة وقع على الثمر ... وهي آخر ما ذكر في مسار الحياة وأشرف ما فيها:لأن لها مقام المقصد وما سبقها من باب الوسائل.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير