وقد وجدتُ في أثناء قراءتي في هذا التفسير عند قوله - تعالى - في سورة الواقعة: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة: 24] هذه العبارةَ "المسألة الأولى أصولية، ذكرها الإمام فخر الدين - رحمه الله - في مواضع كثيرة، ونحن نذكُر بعضها .. إلخ" [7].
وهذه العبارةُ تدلُّ على أنَّ الإمام فخر الدين، لم يصل في تفسيره إلى هذه السورة.
كما وجدتُ عند تَفْسِيرِه لِقوله - تعالى - في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] الآية، أنَّه تعرَّض لِموضوع النية في الوضوء، واستشهد على اشتراط النية فيه بقوله - تعالى - في سورة البينة: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وبَيَّنَ أنَّ الإخلاص عبارة عن النّيَّة، ثم قال: "وقد حقَّقنا الكلامَ في هذا الدليل في تفسير قوله – تعالى -: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فليرجع إليه في طلب زيادة الإتقان" [8].
وهذه العبارة تُشْعِرُ بِأَنَّ الفَخْرَ الرَّازِيَّ فسَّر سورة البَيّنة، أي أنَّه وصل إليها في تفسيره، وهذا طبعًا بحسب ظاهر العبارة المجرَّد عن كل شيء.
والذي أستطيع أن أقوله كحلّ لهذا الاضطراب: هو أن الإمام فخر الدين كتب تفسيره هذا إلى سورة الأنبياء، فأتى بعده شهاب الدين الخويي، فشرع في تكملة هذا التفسير ولكنه لم يتمه، فأتى بعده نجم الدين القمولي فأكمل ما بقي منه. كما يجوز أن يكون الخويي أكمله إلى النهاية، والقمولي كتب تكملة أخرى غير التي كتبها الخويي، وهذا هو الظاهر من عبارة صاحب "كشف الظنون".
وأمَّا إحالة الفخر على ما كتب في سورة البينة، فهذا ليس بصريح في أنَّه وصل إليها في تفسيره، إذ لعلَّه كتب تفسيرًا مستقلاًّ لسورة البينة، أو لهذه الآية وحدها، فهو يشير إلى ما كتب فيها ويحيل عليه.
أقول هذا: وأعْتَقِدُ أنَّه ليس حلاًّ حاسمًا لهذا الاضطراب، وإنما هو توفيق يقوم على الظن يخطئ ويصيب.
ثم إنَّ القارئ في هذا التفسير، لا يكاد يلحظ فيه تفاوتًا في المنهج والمسلك، بل يجري الكتاب من أوله إلى آخره على نَمَط واحد، وطريقة واحدة، تجعل الناظر فيه لا يستطيع أن يميز بين الأصل والتكملة، ولا يتمكَّن من الوقوف على حقيقة المقدار الذي كتبه الفخر، والمقدار الذي كتبه صاحب التكملة.
هذا؛ وإنَّ تفسير الفخر الرازي ليحظى بشهرة واسعة بين العلماء، وذلك لأنَّه يمتاز عن غيره من كتب التفسير، بالأبحاث الفياضة الواسعة، في نواحٍ شتى من العلم؛ ولهذا يصفه ابن خلكان فيقول: "إنه – أي الفخر الرازي – جمع فيه كل غريب وغريبة" [9].
اهتمام الفخر الرازي ببيان المناسبات بين آيات القرآن وسوره:
وقد قرأتُ في هذا التفسير، فوجدتُ أنَّه يَمتازُ بِذِكْرِ المُناسبات بَيْنَ الآياتِ بَعْضِها مَعَ بَعْضٍ، وبين السور بعضها مع بعض، وهو لا يكتفي بِذِكْر مُناسبة واحدة؛ بَلْ كثيرًا ما يذكر أكثر من مُناسبة.
اهتمامه بالعلوم الرياضية والفلسفية:
كما أنَّهُ يكثر من الاستطراد إلى العلوم الرياضيَّة والطبيعية وغيرها من العلوم الحادثة في الملَّة، على ما كانتْ عَلَيْهِ في عَهْدِه؛ كالهيئة الفلكيَّة وغيرِها، كما أنَّه يعرِض كثيرًا لأقوال الفلاسفة بالرَّدّ والتَّفْنِيد، وإن كان يَصُوغُ أدِلَّتَهُ في مباحث الإلهيَّات على نَمط استدلالاتهم العقلية، ولكن بما يتَّفِق ومذهب أهل السّنَّة.
موقفُه من المعتزلة:
ثم إنه – كسُنّي يرى ما يراه أهل السنة، ويعتقد بكل ما يقررونه من مسائل علم الكلام - لا يَدَعُ فُرصةً تَمُرّ دون أن يَعْرِضَ لِمَذْهَبِ المعتزلة بِذِكْرِ أقْوالِهم والرَّدّ عليها ردًّا لا يراه البعض كافيًا ولا شافيًا.
فهذا هو الحافظ ابن حجر يقول عنه في "لسان الميزان": "وكان يُعابُ بِإيراد الشبهة الشديدة، ويقصر في حلها، حتَّى قال بعض المغاربة: "يُورِدُ الشّبهة نَقدًا ويحلّها نسيئةً" [10].
¥