[التعدد الدلالي: قراءة في آية معجزة!]
ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[12 - 10 - 08, 09:25 م]ـ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على اشرف المرسلين ..
وبعد:
فإن التعدد الدلالي سمة من سمات أسلوب القرآن ووجه من وجوه إعجازه، وتكاد المعجزة هنا تتاخم " الحسي":فأي فرق يذكر بين تكثيرالأرغفة وإطعام الجيش جميعه من قِدر واحدة، واستخلاص المعاني المتكثرة المتسعة من حيز لغوي قليل محصور.! فالملحظ هو الملحظ في الحالتين: كمون الأكبر في الأصغر واستخلاص الأكثر من الأقل.
هذه السمة القرآنية لم تغب عن أذهان السلف فهي المرادة بقولهم "القرآن حَمَّالٌ ذو وجوه"
فما الآليات اللغوية التي تؤذن بنشأة ذلك التعدد؟
استقراؤها وحصرها شبه محال، وحسبنا هنا أن نشير إلى وجه أو وجهين متوخين توضيح الفكرة لا غير:
لقد لاحظ العلامة ابن عاشور أن "التقديم والتأخير" من مثيرات التعدد الدلالي وذكره ضمن مقدمات تفسيره ووقف عند أمثلة منه خلال تفسيره.
قال:
"وإليك مثلا من ذلك يكون لك عونا على استجلاء أمثاله. قال تعالى (إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا) إلى قوله (إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا) إلى قوله (وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا) فكان للابتداء بذكر جهنم ما يفسر المفاز في قوله (إن للمتقين مفازا) أنه الجنة لأن الجنة مكان فوز. ثم كان قوله (لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا) ما يحتمل لضمير " فيها " من قوله (لا يسمعون فيها) أن يعود إلى (كأسا دهاقا) وتكون " في " للظرفية المجازية أي الملابسة أو السببية أي لا يسمعون في ملابسة شرب الكأس ما يعتري شاربيها في الدنيا من اللغو واللجاج وان يعود إلى (مفازا) بتأويله باسم مؤنث وهو الجنة وتكون " في " للظرفية الحقيقية أي لا يسمعون في الجنة كلاما لا فائدة فيه ولا كلاما مؤذيا. وهذه المعاني لا يتأتى جميعها إلا بجمل كثيرة لو لم يقدم ذكر جهنم ولم يعقب بكلمة (مفازا). ولم يؤخر (وكأسا دهاقا) ولم يعقب بجملة (لا يسمعون فيها لغوا) الخ"
-انظر في التحرير والتنوير المقدمة العاشرة: في إعجاز القرآن-
واضح أن الشيخ يريد ب"التقديم والتأخير " اعتبارا لمطلق الترتيب في الذكر والخط وليس من جهة التعالق النحوي مثل تقديم المعمولات على العوامل ... فالتقديم والتأخير في البلاغة من شأنه تكييف المعنى لا تكثيره وغرضنا هنا هو الثاني لا الاول.
ولتوضيح ذلك نقف على مثال آخر قريب المأخذ:
{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} الحديد22
تقدم في الآية ذكر ثلاث مفردات مؤنثة هي:
"مصيبة"،"الأرض" "أنفسكم"
وتأخر الضمير في:
" نبرأها"
فجاز أن يعود على كل مؤنث سابق،ومن ثم يتعدد المعنى:
-فقد يعود الضمير على المصيبة فيتجلى معنى" القضاء والقدر "فيكون للمصيبة وجودان: وجود في حيز القضاء" فِي كِتَابٍ " ووجود في حيز القدر "فِي أَنفُسِكُمْ" ..
-وقد يعود الضمير على الأرض فيتجلى المعنى السابق نفسه مع إيحاء بالتقدم في الزمنية فالمصيبة الواقعة في الأرض كائنة قبل نشأة محلها ..
-وقد يعود الضمير على الأنفس فيتجلى المعنى السابق مع إيحاء بالمواساة والتعزية مع قطع للجدال، فما سيقع للنفوس أمر فرغ منه من قبل متقدم على وجودها نفسه ومن ثم فالسلوك الحكيم المطلوب والحالة هذه "
"لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ .. "
صحيح إن المعاني متقاربة ولكنها متكثرة على كل حال.
*****
لكن الآية التالية معجزة بهذا الصدد بدون مراء:
وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} البقرة212
فالمركب الوصفي" بِغَيْرِ حِسَابٍ" جاء ذكره بعد ذكر الرازق والمرزوق والرزق فصح تعلقه بها جميعا وأشتاتا،وإذا ما اعتبرنا -فضلا عن ذلك- اشتراك مصدر "الحساب" ودلالته المزدوجة على الإحصاء والحسبان توقعنا التكوثر الدلالي المذهل في الآية!!
وليس الأمر هنا متعلقا بكثرة المعاني فحسب بل باشتمال كل معنى من المعاني المحتملة على أصول وقواعد عقدية عميقة مع مقتضياتها من أسماء وصفات الله عز وجل .. وهذا توضيح لبعض ذلك:
¥